في الدول الديمقراطية، تضع الهيئة المستقلة التي تتولى الإشراف على الانتخابات العامة سقفاً مالياً مُحدداً لا يجوز أن تتعداه تكلفة الحملة الانتخابية للمرشح، ثم تقوم بالتعاون مع هيئة النزاهة (مكافحة الفساد) بعملية التدقيق على التكلفة المالية للحملة الانتخابية، ومعرفة تفاصيل مصادر الأموال التي تُصرف عليها، إذ إن التكلفة المالية العالية للحملات الانتخابية لا تَحرم متوسطي الدخل والفقراء من المنافسة بتقليل فرصهم، مقارنة بالأثرياء، في مخاطبة الناخبين والوصول إليهم والتأثير في توجهاتهم فحسب، بل إنها تثير الشبهات حول مصادر الأموال الضخمة التي تُصرف خلال مدة قصيرة هي فترة الانتخابات. علاوة على ذلك هناك أيضاً كشف الذمة المالية الذي يلتزم كل من يفوز في الانتخابات بتقديمه لمنع استغلال المنصب العام في تحقيق منافع شخصية وإثراء غير مشروع.

أما هنا فحدّث ولا حرج، إذ لا رقابة تذكر على عملية صرف الأموال أثناء فترة الانتخابات، ولا أحد يعرف مصادرها، وهو الأمر الذي يُفسِد العملية الانتخابية ولا يجعلها مرآة حقيقية لإرادة الأمة، حيث إن فرص نجاح أصحاب رؤوس الأموال الضخمة التي لا يُعرف رسمياً مصدرها أكثر، بما لا يقارن بفرص غيرهم من المرشحين. وإذا ما أضفنا إلى ذلك قانون الانتخاب غير العادل، والفوضى السياسية، والتدخلات الحكومية، والمال السياسي، والاستقطابات الفئوية والطائفية، فسنكون أمام وضع غير سليم، إذ إن مخرجات الانتخابات العامة لا تعكس حقيقة إرادة الأمة.

Ad

يكتسب السؤال عن مصادر التمويل والغرض من صرف هذه الأموال الضخمة أهميته إذا أخذنا في الاعتبار أن تكاليف بعض الحملات الانتخابية تتجاوز المليون دينار. بمعنى آخر، ما هو السبب الذي يجعل بعض المرشحين يقومون بصرف مليون دينار أو حتى 200 ألف دينار على الحملة الانتخابية، وبعضهم لا يكل ولا يمل من الفشل، فيُكرروا المحاولة تلو الأخرى مع أن الراتب في حال النجاح لا يتجاوز 3 آلاف دينار، أي ما مجموعه 144 ألف دينار خلال مدة العضوية كاملة في حال لم يُحلّ المجلس قبلها كما جرت العادة؟! هل السبب هو معرفة معظم المرشحين أن المنصب الجديد، وهو عضوية المجلس، سيدِر عليهم أضعاف ما صرفوه خلال الحملة الانتخابية، لاسيما في ظل غياب قانون "من أين لك هذا؟"، كما سيمنح المنصب الجديد بعضهم الوجاهة الاجتماعية التي يبحثون عنها وما تحققه من منافع خاصة، علاوة على سياسة توزيع المنافع الاقتصادية بحسب طبيعة موازين القوى ومراكز النفوذ. لقد أثبتت التجارب السابقة سياسة التنفيع من المال العام لمجاميع محددة، كما أوضحت التجارب أيضاً أن هناك أشخاصاً لا علاقة لهم ألبتة بالسياسة أو بالشأن العام، وكانوا قبل الانتخابات متواضعين مالياً واجتماعياً، ثم أصبحوا فجأة بعد الوصول إلى المجلس من أصحاب الملايين! فمن أين لهم ذلك؟!