رأسه موقد جمر، كل فكرة في ذلك الرأس، وكل رأي، ليس سوى جمرة تتقد لهباً إلى أن تُنجز، أياً كانت تلك الفكرة، ومهما بلغ حد هامشيتها، أو حتى سخافتها، تبقى نارا ذات لهب في رأسه توزّع شظاياها على كل من حوله. لا شيء لديه قابل للتأجيل لأي أمر، ولو حتى لأسباب قدرية، يظل صاحبنا «أبوجمرة»، وهذه كنيته، يشعل الحرائق يميناً ويساراً، وكيفما اتفق، إلى أن يحصل على ما يريد، أو أن يصرفه الله عمّا يريد ويشغله بأمر آخر.

يشعل الحرائق بسببه، لو زرع «أبوجمرة» بذرة في الأرض، لوقف على رأسها، بانتظار أن يجني ثمرها بعد لحظات، ولأقام الدنيا وأقعدها خلال لحظات الانتظار تلك، وانهال بسيل من الشتائم على الأرض والمطر والريح والهواء والنور، لعدم قدرتهم على جعل تلك البذرة شجرة، ومن ثم ينضج فيها الثمر خلال تلك اللحظات!

Ad

هذا هو «أبوجمرة»، وجبة الطعام اليومية مع أسرته ليست سوى دقائق ماراثونية مع التوتر، لا تسمع سوى صوت أبوجمرة غاضباً مصحوباً بالشتائم وبالسؤال أين كذا؟! أو لماذا هذا هكذا؟! وكيف حدث ذاك؟! ويقضي دقائق الأكل مع زوجته وأبنائه، وكأنها دهر، لا طعم لما يأكلون ولا يشعرونه، في اجتماع العائلة الأكبر الأسبوعي في بيت والد «أبوجمرة» وهو في المناسبة أكبر الإخوة من البنين والبنات، لا يكف «أبوجمرة» عن توزيع الانتقادات، والتوجيه الحاد كل الوقت لكل الحاضرين- باستثناء والديه طبعا- كلما همّ أحدهم بفعل شيء، حتى لو كان تافها، كإغلاق نافذة في المكان أو فتحها، لسمع صوت «أبوجمرة» عاليا من بين كل الحضور يوجهه بكيفية فتح تلك النافذة، مطرِّزا توجيهاته تلك بعبارة: «ما تفهم إنت»!! بين التوجيه والآخر، وقد يُفاجأ به ينحّيه بدفعه عن النافذة ليفتحها بنفسه.

أصبح «أبوجمرة» عنصر طرد في معظم المناسبات الاجتماعية، يسري بوجوده تيار خفي من التوتر لا يمكنك التنبؤ بكيفية اشتعاله أو متى، ناصحه كثير من المقربين، مرة من باب الخوف على صحته من سلوكه الناري هذا، والذي يحرق به أعصابه ويسبب له الكثير من الأذى، ومرة بحجة الخوف على علاقته بأولاده، وأن هذا السلوك انتزع شخصيتهم، جعلهم عديمي الثقة بأنفسهم وبقدراتهم، يتمنون لو وجدوا وسيلة من التهرب من المسؤوليات التي يكلفهم بها «أبوجمرة» مهما بلغت بساطة تلك المسؤولية وسهولتها، لأنهم على يقين بأنها لن تكون كذلك مع «أبوجمرة»، معه ستصبح كارثة يصعب تجاوزها.

أصبح جل تفكير أولاده وهاجسهم الأكبر هو كيفية التهرب من المسؤولية، كثير من أولاد «أبوجمرة» موجودون بيننا في مجتمعنا، وربما بعضهم يتبوأ أعلى المناصب، إلا أن ولد «أبي جمرة» لايزال كما هو عديم الثقة بذاته، ويجيد فن التهرّب من المسؤولية!