اليابان... ثقافة الإحساس بالخجل والعار

نشر في 24-11-2016
آخر تحديث 24-11-2016 | 00:12
 خليل علي حيدر أحد أبرز الكتب العربية عن اليابان من تأليف وزير الثقافة المصري الأسبق محمد عبدالقادر حاتم (1918- 2015).

اليابانيون، يقول حاتم، نتاج "مزيج من العزلة الطبيعية والمصطنعة"، وقد مكنتهم هذه العزلة من "التطور على انفراد وبطريقتهم الخاصة"، ورغم أن معظم حضارة اليابان نبعت من الصين، إلا أن ثقافة اليابان وحضارتها ظلتا مختلفتين عن أنماط كوريا والصين، وإن لم يكن هذا إيجابياً أو صحياً على الدوام، "فقد جعلت الشعوب الأخرى، بما فيها الكوريون والصينيون المجاورون، تنظر إلى اليابانيين على أنهم مختلفون نوعاً ما، كما خلقت في اليابانيين وعياً قوياً بهويتهم الذاتية. ومن سخرية الأقدار أن العزلة شحذت حسّ اليابانيين لكل ما يأتي من الخارج ودفعتهم إلى التدقيق في مصدره".

واليابانيون أساساً شعب منغولي، غير أنهم، يضيف د. حاتم، "نتاج عمليات مزج واختلاط بعيدة وغير مدونة". لقد تلاشت العزلة اليابانية اليوم... ويضيف: "لقد تم التحول عن العزلة الكاملة... أي المشاركة الكاملة".

يقع كتاب د. حاتم في قرابة 950 صفحة، تتضمن خلاصة أسفاره إلى اليابان وقراءاته عنها، ومتابعاته لشؤونها.

يقول د. محمد عبدالقادر حاتم في كتابه الضخم "أسرار تقدم اليابان" (القاهرة 1998): "لا شك أن السواد الأعظم من الاتجاهات الأساسية لليابان يسير نحو نفس اتجاهات أوروبا والولايات المتحدة، ومع ذلك فلمتوسط اليابانيين معايير مختلفة عن المعايير الشائعة في البلاد الغربية. وقد يكون التوازن بين الفرد والجماعة هو النقطة المناسبة لبدء التحليل، فاليابانيون يتجهون بصورة أكبر من الغربيين إلى العمل في جماعات أو إلى تصور أنفسهم وكأنهم يعملون بهذه الطريقة".

وفي المقارنة بينهما (يقول د. حاتم): "بينما يحاول الغربيون إظهار شيء من الاستقلالية والفردية، يسعد اليابانيون بالامتثال لمعايير جماعاتهم فيما يتعلق بالزي والمسلك ونمط المعيشة أو حتى التفكير. فالحفاظ على ماء الوجه، الاصطلاح الصيني أصلاً، والمستخدم في كل مكان، يشغل بال اليابانيين ويشغلهم بصورة أكبر الوجه المطل على أعضاء الجماعة... ويكتظ المجتمع الياباني بجماعات من كل نوع، تلعب في العادة دوراً أكبر وتوفر شعوراً أقوى بالتوحد مع الذات أكثر مما توفره الجماعات المقابلة لها في الولايات المتحدة".

ويقول د. حاتم إن البعض يشعر أن "اليابانيين معرضون لتأثير غريزة القطيع بشكل خاص، وهي ظاهرة شائعة إلى حد ما في كل مكان. ولقد أثّر التوكيد على (الجماعة) في نمط العلاقات الشخصية بأسره في اليابان، فاللاعب المنتمي إلى جماعة وروح الجماعة يحظى بتقدير أكبر من النجم أو الطموح الفردي. وبينما يسعى الأميركي إلى توكيد استقلاله وإبداعه يفعل الياباني العكس، فالمثل الياباني يقول إن (المسمار البارز لا يحظى إلا بالدق عليه)؛ فالشخصية التي تبدو صريحة ونشيطة وطبيعية في نفس الوقت في الولايات المتحدة يراها اليابانيون عصابية ولا سوية".

وفي مجال التحاور والتفاوض، يقول د. حاتم: "ويبدو أسلوب اليابانيين في التفاوض مربكاً ومثيراً للأعصاب بالنسبة للأميركيين، فرجل الأعمال الأميركي يعرض وجهة نظره بوضوح من البداية، مبينا أقصى شروطه بهدف إتمام الصفقة، فيصدم اليابانيون من مثل هذه المقدمات، ويتساءلون عن حقيقة ما يدور في ذهن الأميركي، ويشعر الأميركي بدوره أن مواربة الياباني الحذرة لا توضح الأمور، وتوحي بعدم الأمانة، بالإضافة إلى ذلك يستعين اليابانيون بالوسطاء لتجنب الصدام والاحتفاظ بتماسك الجماعة، وعند عقد صفقة حساسة يقوم شخص محايد باستكشاف وجهات نظر الطرفين والبحث عن سبل تجنب العوائق أو ينهي المفاوضات دون التعرض لخطر المواجهة المكشوفة أو إراقة ماء وجه طرف من الاثنين" (ص 485).

وقد لا يتفهم الغربيون كل سلوك ياباني، وكذلك اليابانيون بدورهم إزاء الغربيين. "ويظهر الغربيون بصورة القوم الخشنين وغير الناضجين الذين لا يمكن التنبؤ بما سوف يفعلونه لسرعة إظهارهم لانفعالهم، وذلك عند مقارنتهم باليابانيين، وفي الغرب ينظرون إلى الشخص الذي لا يمكن التنبؤ بأفعاله على أنه مُسَلّ أو خفيف الظل، أما بالنسبة لليابانيين فيبدو ذلك كصفقة تستحق التوبيخ، ويتبع مجتمعهم مسارات ثابتة، ويتصف بالهدوء والاستقرار النسبي من الناحية الشكلية على الأقل".

ومن جوانب السلوك الأخرى لدى اليابانيين، كما يشير إليها كتاب "أسرار تقدم اليابان"، إشارته إلى هدوء اليابانيين وتحكمهم في مشاعرهم. "فنادراً ما ترتفع الأصوات خارج مظاهرات العمل والسياسة أو الاحتفالات الجماعية، إذ من النادر أن تجد أماً توبخ أولادها أو شاباً بذيئاً أو زوجة سليطة اللسان، كما يحدث في الأجزاء الأخرى من العالم، فاليابانيون في واقع الأمر يكرهون إظهار المشاعر بصورة مكشوفة، سواء الخاصة بالحب أو الغضب، وهم يتجنبون إظهار الود في الأماكن العامة لغير الأطفال الصغار، ومن النادر مشاهدة أو ممارسة التقبيل. ويبدو التقبيل والعناق اللذان يتمان أحيانا بدون تمييز وبصورة شائعة في الغرب والشرق الأوسط أمراً غريباً بالفعل بالنسبة إلى بلد لا تقبل فيه الأم ابنتها البالغة، ويصعب القول إن كانت كل هذه الخصائص بالفعل نتيجة لاتجاههم الجماعي" (486).

ويحاول الكتاب تفسير الاتجاه الجماعي في اليابان بأنه "محصلة كثافة سكانية كبيرة عاشت في حيز ضيق لمدة طويلة أو نتيجة العيش في مساكن مزدحمة وهشة، الأمر الذي يتطلب قدراً كبيراً من ضبط النفس ومراعاة شعور الآخرين لتظل ظروف المعيشة محتملة".

وتشبه بعض الملاحظات على الأساس الأخلاقي لسلوك اليابانيين تلك التي يوجهها علماء الاجتماع والساسة الغربيون إلى شعوب الشرق الأوسط والمسلمين، فيصف بعض المراقبين حضارة اليابان بأنها "حضارة الإحساس بالخجل والعار بدلاً من الإحساس بالذنب مثل الغرب، بمعنى أن الشعور بالخجل قبل مواجهة إدانة المجتمع هو حافز أكثر فعالية من الشعور بالذنب". ويضيف المؤلف أن الياباني "يبدو ضعيفاً ومفتقداً للمبادئ في نظر الغربي، بينما يبدو الغربي في نظر الياباني فظاً شديد الاعتزاز بأحكامه وتنقصه المشاعر الإنسانية".

وكما هو الحال مع منتقدي التربية الاجتماعية للطفل في ثقافة الأمومة بالمجتمعات العربية والشرق الأوسط، يعزو البعض عدداً من السلبيات والتراخي واتكالية السلوك إلى أساليب التربية، "إذ يعامل الوليد والطفل الياباني بتساهل وحنان شديد، ويكاد اتصالح بأمه يكون مستمراً، ولا يترك وحيداً على الإطلاق، ويتناقض ذلك كله مع ميل الأميركيين إلى إخضاع الأطفال لنظم نوم وتغذية صارمة وتركهم ينامون وحدهم منذ البداية، وفي أسرّة منفردة في غرف خاصة بهم، وترك رعايتهم أحيانا لمربيات أو جليسات غربيات، وملاطفتهم بالكلمات بصورة أكثر من اللمسات الحانية".

ويلاحظ المنتقدون كذلك أن "رضاعة الطفل الياباني تستمر فترة طويلة نسبيا، ويطعم متى يشاء، كما أن الأم تداعبه بصورة مستمرة وتحمله على ظهرها عند خروجها، وفي الزيارات الاجتماعية التقليدية، كما أنه ينام مع أبويه حتى يشب عن الطوق. وحتى بعد ذلك يميل اليابانيون إلى النوم في جماعات بدلاً من النوم فرادي في غرف خاصة، ولا يتم التوجيه والإرشاد بأسلوب الأوامر والنواهي التي يصحبها التهديد بالعقاب، بقدر ما يتم عن طريق الاتصال الحميم الهادئ وتقديم نماذج القدوة الحسنة".

ويرى الاجتماعيون أن لهذه التربية نتائج سلبية غير مباشرة، تؤثر في الشخصية اليابانية، "فالطفل الياباني باختصار يعامل معاملة الأطفال بدلاً من المعاملة كبالغ صغير في أول حياته، فلا عجب أن تكون النتيجة قدراً من الاعتماد على الأم بصورة خاصة تبدو غير مألوفة في الغرب.

ويتمخض عن هذا الأسلوب في التنشئة طفل ثم بالغ تعوّد أن ينعم بحنان الآخرين. ويسمى هذا الاتجاه باليابانية (أماي) وهو اسم مشتق من فعل (أميرو) الذي معناه (حلو) ويتوقع الحنان من الآخرين، وهو اتجاه يبدأ في الاعتماد النفسي والجسمي على الإشباع بواسطة الأم، ثم ينمو ليصبح اعتماداً نفسياً على الإشباع بأن يحاط الشخص بدفء الجماعة وتلقي استحسانها. ويتكون لدى الطفل توقع التساهل والتفاهم من الأم إلى جانب تقبل سلطتها.

وبمرور الوقت ينمو هذا الاتجاه ليصبح تقبلاً لسلطة البيئة الاجتماعية المحيطة وحاجة إلى الاعتماد على رضاها الاجتماعي الواسع".

ولهذه التنشئة، كما يقول الدارسون، أبعادٌ سياسية، فـ"على هذا النحو، ينتقل الطفل الياباني بيسر مدهش من تساهل السنوات الأولى إلى تقبل سلطلة الوالدين والمدرسة الصارمة في السنوات التالية، ثم إلى الإذعان لأحكام الجماعات التي ينتمى إليها أو للمجتمع بصفة عامة، ويكتسب سخط الوالدين الذي تدعمه تحذيرات مثال (سيسخر الناس منك) قوة عارمة بالنسبة للطفل كما تكتسب الجماعة نفس الصفة في مرحلة لاحقة.

ففي القرية التقليدية كان النبذ (مورا هاشيبو) يمثل أقصى صورة للعقاب، وفي الأزمنة السابقة كان النفي من البلاط إلى جزيرة أو مقاطعة نائية أكثر العقوبات بعثا للخوف". (493)

غير أن الدارسين للشخصية اليابانية يحذرون كذلك من المبالغة في تأكيد ميول اليابانيين الجماعية وأخلاقياتهم النسبية، فهم ليسوا في النهاية أمة من الكائنات التي تتحرك آلياً دون مشاعر، فقد أظهر اليابانيون حيوية كبيرة وقدرة على التغيير والتحديث الهادف، كما تظهر فنونهم حساسية مفرطة وإبداعاً؛ "فالياباني يخضع فرديته للجماعة بشكل أكثر من الغربي، أو لعله يظن ذلك على الأقل، إلا أنه يحتفظ في نفس الوقت بوعي شديد بهويته الذاتية في جوانب أخرى". غير أن "التمرد الاجتماعي في اليابان يحتاج إلى قدر أكبر من الجرأة والتصميم عما قد يكون عليه الحال في المجتمعات ذات النسيج الرخو. ولكن جدير بالذكر أنه حتى المتمرد على المجتمع يكون في العادة عضواً في مجموعته الصغيرة الشديدة الترابط وليس فرداً شاذاً أو يعمل لحسابه الخاص". (ص 500).

على صعيد آخر، كما يلاحظ دارسو اليابان، فإن كلمة الفردية "كوجين شوجي"، مازالت مزدوجة المعنى في اليابان، كما كانت منذ الاتصالات الأولى مع الغرب، فهي "توحي لليابانيين بالأنانية بدلاً من مفهوم المسؤولية الشخصية، وكثيراً ما يتجنب طلبة الجماعات المعاصرون أثناء بحثهم عن مفهوم التعبير الفردي عن الذات كلمة "فردية" لتحل محلها كلمة "ذاتية" (نشوتايساي) بمعنى أن يكون الشخص عنصراً إيجابياً في حياته بدلاً من كونه عاملاً سلبياً، وقد تعلم الياباني تنمية فرديته الذاتية بطرق مقبولة اجتماعياً".

هل نحن، بعد كل هذه الملاحظات، أعمق فهماً للشخصية اليابانية؟ هل فهمهم للفردية نفس ما نفهم نحن منها في ثقافتنا؟ سنرى ذلك في مقالات قادمة!

back to top