الكويت بدون «البدون»

نشر في 26-11-2016
آخر تحديث 26-11-2016 | 00:09
 جري سالم الجري «البدون» نعمة أم نقمة؟ تتعطش بلدان الصناعة لطاقات بشرية، فهي تهدي الجناسي والبطاقات الخضراء بأهون الأعذار، كأميركا وكندا والإمارات وتركيا، ترحب بكل من يخدم مشاريعها الساخنة، فحينما يكون عند أحدهم قطار جاهز لا يخشى عدد الركاب.

ولكن الوضع في الكويت مختلف، فنحن جغرافياً محدودون، وجيوساسياً (الوضع السياسي مع الجيران) حالنا ملتهب بل مشتعل، إلى جانب أن بلدنا يعاني أزمة توظيف لأبنائه ذوي الجنسية، كما أننا نعاني شح الأعمال أو الشركات الحرة التي تطمع بعمالة أبناء بلدها، فالكويت لحجمها الصغير ولقدرة استيعابها الضعيفة لا تتحمل التكدسات البشرية التي تستنزف الموارد العامة... فالبدون نقمة على المجتمع.

ولكن هذا ما كنت أظنه قبل الغوص في هذا الموضوع، لتستجد لي أمور يبدو أن العامة تجهلها، كما أنني أدركت حلولاً أراها جذرية وتحقق حلمنا وحلمهم، وهو معجزة «كويت بدون البدون»... فما هذه الحلول السحرية التي ستحل لنا هذه المشكلة لبلد بحجم حبة الرمل وبعددٍ أقل من أفراد حارة بمصر؟

قضية البدون واجب طرحها برلمانياً مرارا وتكرارا لإيجاد وتنفيذ حل نهائي لها، ولكي يتم ذلك بسلاسةٍ يجدر بنا عدم حشد كل طائفة وقبيلة وعائلة من البدون بقالب واحد، فكما تقول القاعدة «فرق تسد»، بمعنى أننا إذا أردنا أن نكون أسياد الموقف بلا ضحايا بإذن الله، فإنه يجب علينا التصنيف بشكل عقلاني ورزين وغير مجحف بحق أحد لمصلحة آخر، ولكي لا يظهر مرشحون يشتكون أن الكويت صرفت 721 مليوناً على البدون، وكذلك يجب التحقق حتى لا تظهر لنا مزاعم نقيضة وعنادية تتشدق بمبالغات سوداوية ومأساوية، فتصفهم بأنهم في مجاعة وغير ذلك، في وسط هذا التشويش ألزمت نفسي دخول هذا المجمتع في تيماء والجهراء وغيرهما من مناطق لا يخفى على مواطن أو مقيم تواجد «البدون» فيها... فماذا وجدت؟

وجدت صدمة العشوائيات في تيماء، حيث تتكوم قطع «الشينكو» على بعضها، فالبيت خمسة ألواح (شينكو) مكعبة، تلطمه اللواهيب الحامية والرياح القارسة، تأوي إليه أسرة شرفاء قبائل ببلدهم الأصلي أو آباء مهندسين أو «نسايب حمولة»، فعبثية العمران تحاكي «سيريالية» (فن لوحات الزيوت المخلوطة) حَبك قصص حياتهم، فهل أسميهم ضحايا الشاه أو تنثير كامب ديفيد أو بطش صدام أم أسميهم بشراً يسترون أعراضهم ويحبسون أيديهم عن السؤال بصنعهم بيوتاً بمقدراتهم المحدودة؟

بل الأعجب من ذلك أنهم يفرحون بالزائر ويكرمونه كأنهم ما ذاقوا مرارة بزمانهم رغم جهلهم هويته ونسبهم، بل يدعونه إلى أفراحهم (كما شَرُفت بحضور أفراحهم بشتى مناطقهم وأعراقهم)، فكنت أجد وجوههم ضاحكةٌ مستبشرة، ولكن ثمة الكثير من الصدمات التي كانت تنتظرني، وهي أن أغلبهم لا يريد الكويت عن بكرة أبيها، ويصف نفسه بالسجين فيها، وعلى النقيض، بعضهم يحمد ربه على غبار الكويت حباً فيها، لأن أجدادهم البادية كانوا موجودين في السور من أيام البريطانيين، وبعضهم هاجر، بشكل قانوني أو غير قانوني، إلى كندا وألمانيا وكذلك آسيا وتركيا، ليكتشف الآخرون عبقريتهم في طب أو براعتهم في صناعة أو حذقهم في تجارة، ولكن بالنسبة إلينا، ما يزيد الموضوع صعوبة في استثمار قدراتهم وتحسين حالتهم المعيشية هو أنهم جاءوا من جميع اتجاهات البوصلة، ولا نعرف صراحةً ولاءاتهم وانتماءاتهم، فكيف نجد حلاً شاملاً ومرضياً للكل؟

يكمن الحل في التعامل مع كل فئة وفق ما يناسبها، هكذا هي الإنسانية... أليست هي احتضان الآخر برفق ورحمة؟ (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). ولكي تكون هذه الرحمة ذات منهج تطبيقي يجب تقسيمهم إلى فئة مستحقة وغير مستحقة (تم ذلك)، فالمستحق يُجنس فوراً كما في أميركا، أو إقناعه بدفع 10 في المئة من راتبه لمدة سنة ليمنح الجنسية كما هو الحال في كندا، ولكن غير المستحق يعرض له «خيار» اعتباره لاجئاً يكفل له المجتمع وظيفة وراتباً ومأوى (كفرصة إثبات استحقاقيته للعيش في هذا الوطن) على أن يملى عليه، لأول مرة في التاريخ، تعريف موحد لما هي الأعمال الجليلة التي ترفعه إلى قسم مستحقي الجنسية، وعسى أن يكون هذا هو الجواب عن سؤالي «متى تكون الكويت بدون البدون؟».

back to top