بعد 23 عاماً من الخداع أصبحت حقيقة السياسة الإسرائيلية في فلسطين معلنة وواضحة كالشمس، ولم تعد الحكومة الإسرائيلية تشعر أن عليها أن تخفي نواياها أو تغلفها بالحديث عن السلام وعملية السلام. وتبين أن الخطة الوحيدة التي تقوم بتطبيقها في الأراضي المحتلة هي تكرار ما قامت به عام 1948، وبعده، في حيفا والناصرة وعكا والجليل والمثلث. سلب أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية بما فيها القدس بالقوة و"الزعرنة"، وتهويدها بالاستيطان، ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة.

خلال أسبوع واحد بعد انتخاب ترامب، الذي اعتبرت تصريحاته وتصريحات أعوانه ضوءاً أخضر لإسقاط ما تبقى من ورقة التوت الإسرائيلية، أعلنت أسرائيل استئناف خطة بناء 30000 وحدة استيطانية في القدس ومحيطها، وقدم مشروعان للكنيست، أحدهما لمنع الأذان للصلاة، والآخر لتشريع 120 مستوطنة جديدة تضاف إلى المئة وتسع وخمسين مستوطنة قائمة، وتتوسع.

Ad

ولعل أخطر قرار اتخذ منذ عام 1967، كان التوجه إلى تشريع هذه البؤر الاستيطانية، والذي يعني تهويد الضفة الغربية بكاملها والقضاء المبرم على إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة.

أما الإعلان الثالث فجاء على لسان بنيت وزملائه الوزراء المستوطنين الذين قالوا بملء الفم إنه لا مكان لدولة فلسطينية، وقرروا استبدالها بحكم ذاتي هزيل على ما سيكون "غيتوات" ومعازل مقطعة الأوصال مع الضم الفوري، لما يسمى مناطق (ج) أي لأكثر من 62 في المئة، من مساحة الضفة لإسرائيل. ولا يمثل ذلك نهاية لألاعيب التمويه الإسرائيلية فحسب، بل نهاية مذلة ومهينة لاتفاق أوسلو وملحقاته. ولم تكن إسرائيل لتتجرأ على فعل كل ذلك لولا الصمت الدولي على جرائمها وخروقاتها المتكررة للقانون الدولي، ولولا التقاعس والانشغال العربي بالصراعات الداخلية، ولولا الضعف الذي أصاب الساحة الفلسطينية نتيجة الانقسام الداخلي والانهماك في صراع مستميت ومتواصل على سلطة وهمية اخترعها اتفاق أوسلو، ومازالت بكل مكوناتها تحت الاحتلال سواء في الضفة أو القطاع، ولولا انكفاء الكثيرين عن الاهتمام بالشأن العام والتركيز على مصالحهم الذاتية دون إدراك أن هذه المصالح ستدمر، إن دمر الشأن العام كما جرى بالضبط عام 1948.

وفي صباح كل يوم يخرج نتنياهو ليعلن أن السلام مع العرب لم يعد مرتبطاً بحل القضية الفلسطينية، وخطته الحالية محاولة التطبيع مع الدول العربية لعزل الفلسطينين وتصفية قضيتهم.

ولن تخلو الساحة في الأيام المقبلة من بعض الطفيليين الدوليين والمتآمرين مع إسرائيل الذين سيأتون ناصحين للفلسطينيين أن يتحلوا بالواقعية ويتخلوا عن فكرة الدولة ويقبلوا الاستسلام لنموذج الحكم الذاتي على معازل وبانتوستات، وليستبدلوا حقهم في الاستقلال والحرية والكرامة والعدالة بما يسمونه السلام الاقتصادي أو بالأحرى الاستسلام.

هذا هو الواقع كما يجب أن نراه، وكي نحدد طريق الكفاح ضده لا الاستسلام له، وذلك لن يكون إلا بالإسراع في إنهاء الانقسام الداخلي والتوافق على استراتيجية ورؤية وقيادة وطنية موحدة.

وعلى عكس الصورة القاتمة التي تحاول الأحزاب الصهيونية تكريسها، فإن هناك عناصر قوة إلى جانبنا لم يستطيعوا ولن يستطيعوا تجاوزها.

أولها: العنصر الديموغرافي المقاوم، أي الوجود البشري الفلسطيني المساوي في عدده لليهود الإسرائيليين على أرض فلسطين، والذي يرفض الخضوع أو الاستكانة، والذي لم تستطع إسرائيل أن تكرر تشريده، كما فعلت بثلثي الشعب الفلسطيني عام 1948.

وثانيها: جيل الشباب القادر على تجديد حيوية النضال الفلسطيني من أجل الحق والعدالة.

وثالثها: حركة المقاطعة (BDS) الصاعدة، والتي فشل الاحتلال في خنقها، والتي يمثل صعودها تعبيراً عن تعاطف شعبي عالمي مع قضية الفلسطينيين العادلة.

ورابعها: طاقات الجاليات الفلسطينية الواعية في الخارج، والتي لم يُستَفد إلا من جزء بسيط منها حتى الآن.

وخامسها: أن العالم بأسره مرشح لأن يشهد تحولات غير متوقعة نتيجة تناقضات تتعاظم بسبب تعمق انعدام العدالة في نظامه الاقتصادي والسياسي، وهي تحولات لن تكون بالقطع لصالح السياسة العنصرية المتطرفة التي تنتهجها حكومات إسرائيل.

ولكن العامل الحاسم كان وسيبقى، ما الذي سنفعله نحن الفلسطينيين إزاء التحديات التي تواجهنا؟ وهل سيرتقي الجميع إلى مستوى هذه التحديات، ويفشلون محاولات إبقائنا أسرى للمراوحة في المكان والمراهنة على السراب؟

* الأمين العام لحركة المبادرة

الوطنية الفلسطينية