ما قل ودل: حقوق تعلو الدستور
تعتبر مبادئ الحرية والمساواة، من الحقوق الطبيعية الأسبق وجوداً على الدول ذاتها، فلا يباشرها أصحابها بشرط قبول الدولة لها، بل يمارسونها استقلالاً عنها ودون تدخل من جانبها.
كان العصر الذهبي للمحكمة الدستورية العليا في مصر هو الفترة التي تبوأ رئاستها فقيه القضاء الدستوري الراحل د. عوض المر، حيث نشطت المحكمة في إصدار أحكامها صيانة لأحكام الدستور المصري وحماية للحقوق والحريات العامة ودفاعاً عن المكتسبات الديمقراطية وصيانة لحق الملكية الخاصة.وفي لقاء جمعنا في فندق شيراتون الكويت، حيث كان مدعواً من محكمتها الدستورية لزيارة الكويت، وفي سياق الحديث عن أحكامه التي أصبحت تدرس الآن في الجامعات الأميركية، قال لي إنه بعد أن اطلع على بعض أحكام للمحكمة العليا الأخيرة في ألمانيا التي اعتبرت بعض نصوص الدستور الألماني غير دستورية، لمخالفتها المبادئ الدستورية العامة التي وقرت في وجدان وضمير الإنسانية، بعد حقبة طويلة من معاناتها للاستبداد والقهر، كان يتمنى لو اطلع على هذه الأحكام، قبل تركه المحكمة ببلوغه سن التقاعد، إذاً لقرر عدم دستورية بعض نصوص دستور 1971.
قوانين الإيجارات القديمة في مصر
وأخذ يفيض في شرح ما أسماه مبادئ فوق الدستور، فقد حالت هذه النصوص بينه وبين القضاء بعدم دستورية قوانين الإيجارات التي ألزمت ملاك العقارات المبنية بالقيمة الإيجارية التي تراضوا عليها مع المستأجرين في الأربعينيات من القرن الماضي، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، لمدى حياة المستأجر وأولاده من بعده، وهي قوانين اقتضتها ظروف هذه الحرب، والتي لم يعد لها مبرر بعد انتهاء الحرب وعودة الحياة إلى طبيعتها، وهو الموضوع الذي يطل برأسه كل فترة، ولا تستطيع أي حكومة في مصر مواجهته بحلول عادلة ومنصفة للملاك الذين أصبح ورثتهم يعيشون عيشة الكفاف وللمستأجرين الذي بالغ بعضهم في التمسك بالبقاء في وحداتهم السكنية رغم ثرائهم الفاحش وتركهم لهذه الوحدات خالية، وهم يدفعون عنها إيجاراً شهريا لا يزيد على بضعة جنيهات لا تسد رمق طفل.مبادئ فوق الدستور
واستطرد في حديثه عن الحماية التي تكلفها المبادئ الدستورية العامة لحق الملكية الخاصة والتي تمتد إلى كل حق ذي قيمة مالية، سوء كان حقاً شخصياً أو عينياً، وقرر أن حرية التعاقد هي جزء من هذه المبادئ التي تعلو الدستور، والتي لا يجوز المساس بها، ولو بنص دستوري.دستور الكويت
قلت له، لقد ذكرتني بالمادة 175 من دستور الكويت، فقد استبق الرعيل الأول الذي جمعه المجلس التأسيسي، القضاء الدستوري ودساتير العالم كلها، في إقرار دستورها عام 1962، عندما فطنوا إلى أن هناك مبادئ تعلو الدستور ذاته، يلتزم بها واضعوه في تنقيحه، كما تلتزم بها كذلك، ومن باب أولى السلطة التشريعية التي أسند إليها الدستور تنقيحه، عندما جعلوا من مبادئ الحرية والمساواة خطاً أحمر في الدستور , لا يجوز تعديلها إلا لمزيد منها.ودهش الدكتور عوض المر ببراعة صياغة المادة (175) التي نصت على هذا الحكم، وقال لي إنه سوف يعكف على دراسة نصوص الدستور، آملاً أن تمهله الحياة ليكتب عن هذا الدستور الرائع، ولكن الموت عاجله.حقوق طبيعية
والواقع أن مبادئ الحرية ومبادئ المساواة، تعتبر بحق من الحقوق الطبيعية الأسبق وجوداً على الدول ذاتها، فلا يباشرها أصحابها بشرط قبول الدولة لها، بل يمارسونها استقلالاً عنها ودون تدخل من جانبها، ذلك أن كل تنظيم جماعي لم يمنحهم هذه الحقوق، لا يستطيع حجبها عنهم بعد ثبوتها، ولا يعدو ذلك أن يكون عدواناً عليها وتنصلاً من مسؤولية صونها، ولقد كان انضمام الأفراد إلى جماعة ينتمون إليها ويلوذون بها قائماً على أساس أنها بتكوينها وسلطانها ستحمي حقوقهم الطبيعية.