إذا تجاوزنا، وقد طوت العملية السياسية جناحيها، فورة الانتخابات وصخبها، ستمثل أمامنا حقيقة كبرى هي بكل تأكيد مؤسفة ومريرة إلى الدرجة التي تكاد تغتال في نفوسنا أي رجاء مأمول. وتتمثل هذه الحقيقة في أن مجتمعنا لا يزال قابعاً في طور سابق على الحداثة السياسية ولم تتشكل ملامحه المدنية والأهلية على نحو واضح. وقول كهذا لا ينفي بأي حال من الأحوال أهمية ممارسة الانتخابات البرلمانية؛ فهي، وفي ذلك ضرب من المفارقة، تعزز الميل إلى أن الترتيبات الديمقراطية بصورتها الراهنة عاجزة عن الانتقال بنا إلى موقع متقدم وأكثر تطوراً. بله أبعد من ذلك، قد تفلح هذه الترتيبات ذاتها في أن تزيل الزيف السياسي والمدني عن حياتنا وتقدم هذه الحياة كما هي بكل عيوبها، وبكل تناقضاتها الفعلية، وبالتالي سوف تضعنا أمام مسؤولية التعامل مع هذه العيوب والتناقضات للانتقال إلى الدولة والوطن والمجتمع والسياسة. نحن حالياً، بالفعل، إزاء ظواهر عبرت عن نفسها بكفاءة عالية في الانتخابات، فأغلبية المرشحين ذهب جهدهم السياسي إلى تجذير وتأسيس الخصوصية الفئوية والطائفية والعشائرية، وقد أكسب انخلاع القوة الوطنية عن العملية السياسية هذه الظاهرة لوناً فاقعاً. فأبصرنا رموز الجماعات الظلامية والوجوه الانتهازية إياها تجوس وحدها نهارات الفضاء السياسي ولياليه، وسمعنا جهاراً نهاراً الصوت البدائي الغرائزي القائم على مخاطبة العاطفة الخام وتهييجها من طراز الربط بين عملية التصويت وإرادة السماء والحث على التصويت للمرشح "الورع" و"التقي" في طقس قروسطي بائس.
فوق هذا وذاك، ليس يجهل أحد منا ظاهرة توظيف الإعلام بشراسة في هذه الدورة الانتخابية، وهو استخدام لم يبالِ بمحاذير غالباً ما تضعها وسائل الإعلام نصب عينيها من نوع انكشاف الشخصيات التي تقوم وسائل الإعلام بخدمتها ونوعية الرسائل التي توصلها هذه الوسائل. فهل من الغرابة أن يتأتى عن التسخير المبتذل للإعلام انكشاف الصياغة الإعلامية في مجملها بوصفها مقنعة وزائفة تلهث وراء مقاصد فئوية ضيقة تؤدي عملياً إلى تجزئة وتفتيت المجتمع. مباشرة، دونما حاجة إلى شروحات مستفيضة، تضعنا الممارسة السياسية الراهنة، إذا ما نفذنا إلى نواتها الصلبة، أمام الواقع المشخص بكل شفافية، وتجعلنا نبصر بوضوح حقيقتنا كمجموعات أهلية سابقة على الحداثة، تلتف حول أعناقها حبال الانفصامات والتفتت و"التذري" والأنانية بأرخص صنوفها. وهذه في ظني الأهمية اليتيمة التي ترميها هذه الانتخابات على عتبات وعينا!
مقالات
عن الانتخابات
27-11-2016