يبدو أن الشعبوية تحولت إلى عدوى فيروسية تجتاح الاقتصادات المتقدمة، وفي الوقت نفسه تتقهقر المؤسسة السياسية، ويسجل الدخلاء انتصارات سياسية كبيرة من خلال بذل وعود مثيرة بقلب الأوضاع أو الإطاحة بالنظام. وأعداء الشعبويين هم أعضاء "النخبة العالمية"، الذين خانوا القيم الوطنية، ومع ذلك فإن ثورتهم ضد ما أسماه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب "الأممية" تطمح أيضا إلى التحول إلى ظاهرة عالمية، وتعتمد في واقع الأمر على نسختها الخاصة من مبدأ الدولية.العدوى عملية مفهومة في عالَم التمويل، فالصدمة التي يشهدها مكان ما تُحدِث اهتزازات في أماكن أخرى، حتى في غياب أي ارتباطات مالية مباشرة، لأن المشاركين في السوق الذين يبحثون عن نمط معين يدركون القوى الأساسية العامِلة.
وتستعرض الثورة الشعبوية اليوم ديناميكية مماثلة، فقد وعد ترامب مقدما بأن يكون فوزه أشد تأثيرا من الخروج البريطاني؛ وبالفعل، بعد فوزه على الفور، نظرت قوى اليمين المتطرف الهولندية والفرنسية إلى انتخابه باعتباره بشيرا بما هو آت، وكذلك فعلت حملة "لا" في الاستفتاء الدستوري المقبل في إيطاليا، والتي عليها راهن رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي بمستقبله السياسي.يتمثل وجه الشبه التاريخي الواضح مع الحال اليوم في الفترة بين الحربين العالميتين في القرن العشرين، عندما قَدَّم فلاديمير لينين الشيوعية السوفياتية بوصفها ماركة عالمية، وأسس الحزب الشيوعي العالمي. كما تبنت الفاشية الإيطالية بقيادة بينيتو موسيليني- في الاستجابة لحركة لينين- موقفا أمميا: وفي أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا نشأت حركات القمصان الملونة تقليدا لقمصان موسيليني السوداء لإعلاء مبدأ الحكم المطلق السلطوي كنموذج بديل لليبرالية.وفي حين تنافست الحركات القومية المتشددة مثل فاشية موسيليني ونازية أدولف هتلر في ما بينها حول أيها أقرب إلى الفاشية الحقيقية، فإنها توحدت في نهاية المطاف في معارضة النظام الليبرالي، وعلى نحو مماثل ربما تتبع الثورة السياسية اليوم منطقا لا يمكن وقفه، والذي بموجبه يتعين على كل دولة أن تغلق أبوابها في وجه التجارة والهجرة وتدفقات رأس المال، أو تخاطر بالخسارة في لعبة محصلتها صِفر.ويثير هذا سؤالا جوهريا: فهل يمكن بناء جدار ناري لمنع مثل هذه العدوى السياسية؟ في عموم الأمر، يُستَخدَم تدبيران لوقف الأزمات المالية ومنع انتقال العدوى المالية: حزَم الإنقاذ الدولية والإصلاحات المالية. وعلى نحو مماثل بوسعنا أن نتصور نظيرا سياسيا لمثل هذه التدخلات، ربما مع إصلاحات لمؤسسات الحكم العالمي والأطر الديمقراطية القائمة. ذلك أن العديد من المشاكل التي تؤثر في الدول فرادى الآن هي في واقع الأمر عابرة للحدود الوطنية، ولا يمكن لدولة واحدة معالجتها بمفردها. والمثال الأكثر وضوحا هنا هو تغير المناخ، الذي ينتج الجفاف وفشل المحاصيل المتكرر، وبالتالي تدفقات الهجرة الضخمة.بيد أن الشعبويين اليوم حريصون على رفض التفكير الجماعي، أو المشاركة دوليا، فكل ما يبدو قريب الشبه بالقضايا العابرة للحدود الوطنية يُحكَم عليه على الفور باعتباره غير ذي صِلة بالمصالح الوطنية، وأي عمل دولي منسق يصبح موضع سخرية ويُعَد فاشلا.وربما تخلق الشعبوية المعدية اليوم الظروف المعجلة بفنائها، ذلك أن ما تنطوي عليه من غموض كبير وعدم يقين قد يردع أي استثمار ويخنق النمو في الاقتصادات الهشة بالفعل، ولكن الفِكر الاستبدادي الشعبوي من الممكن أن يزدهر أيضا على هذا الخوف، ولهذا السبب يَعِد "الديمقراطيون غير الليبراليين" باليقين والاستمرارية، وكثيرا ما يقيمون التحالفات مع أجزاء من طبقة رجال الأعمال لضمان ذلك.في الوقت الحالي، تقدم المملكة المتحدة مثالا صارخا لاقتصاد ما بعد الشعبوية، فلم تتسبب نتيجة استفتاء الخروج البريطاني في يونيو في إحداث الكارثة الاقتصادية التي تكهن بها كثيرون من معسكر "البقاء"، ولكن تداعيات الخروج البريطاني كانت تتسم على الرغم من ذلك بقدر كبير من عدم اليقين ومقترحات متعارضة جوهريا لمستقبل البلاد، وهو ما استفز الاقتتال السياسي في البرلمان وداخل حكومة رئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي.في ظل القلق الاقتصادي والتوتر السياسي المصاحب له، لا يصلح الخروج البريطاني كنموذج بديل تقتدي به الدول الأوروبية الأخرى. والواقع أن استطلاعات الرأي أظهرت دعما متزايدا للاتحاد الأوروبي في أغلب، ولكن ليس كل، الدول الأعضاء منذ عقد الاستفتاء.من المرجح أن تخلق رئاسة ترامب القادمة مشاكل مماثلة، وقد يُفضي وعد الرئيس المنتخب بأن يظل من غير الممكن التنبؤ بأفعاله إلى المزيد من تشوه النموذج الشعبوي، وخصوصاً إذا تسببت المخاوف من حرب تجارية، أو ارتفاع حاد في قيمة الدولار نظرا للسياسة المالية الأكثر تساهلا والسياسة النقدية الأكثر إحكاما، في المزيد من عدم اليقين الاقتصادي. ولكن الولايات المتحدة ربما تكون مرنة بشكل فريد: لأنها كانت تاريخيا ملاذا عالميا آمنا في أوقات عدم اليقين الاقتصادي، وربما تكون أقل تأثرا من غيرها من الدول بحالة عدم اليقين السياسي. وبعد أزمة 2008 المالية- وهي الأزمة التي نشأت في الولايات المتحدة بلا أدنى شك- كان تأثير الملاذ الآمن سببا في زيادة قوة الدولار مع ارتفاع تدفقات رأس المال إلى الداخل، وكانت هذه هي أيضا الحال في الأسابيع التي تلت فوز ترامب. وبالتالي فإن اقتصاد الشعبوية في الولايات المتحدة لن يفشل بالضرورة، على الأقل ليس على الفور، وقد يزيد هذا من جاذبيته في أعين الزعماء المستبدين والقوميين الذين يرون في ترامب زميلا وقدوة، ولم يهدر رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي أي وقت في التوقيع على أجندة ترامب.الواقع أن دولة كبيرة مثل الولايات المتحدة من الممكن أن تفرض في عموم الأمر تكاليف عدم القدرة على التنبؤ بتصرفاتها على دول أخرى، وخصوصا على الأسواق الناشئة، ولكن الدول الأصغر حجما، مثل المملكة المتحدة، تميل إلى مواجهة تكاليف أكثر مباشرة، بالإضافة إلى أنها أكثر عُرضة للسياسات الشعبوية التي تنتهجها الدول الأكبر حجما.وفي حين تتأمل الدول هذه الدروس، فقد تبدأ بتشكيل تكتلات إقليمية لحماية أنفسها من العدوى الشعبوية. على سبيل المثال، من الممكن أن تبدأ الصين بالتحدث باسم كل آسيا؛ وربما يجد الاتحاد الأوروبي السبيل أخيرا للتوحد ضد أولئك الذين يريدون تمزيقه إربا، وفي أسوأ الأحوال ربما تشعل هذه النزعة الإقليمية الجديدة عداوات جيوسياسية وتسترجع توترات الثلاثينيات؛ وفي أفضل تقدير ربما يمهد التكامل الإقليمي الساحة لإصلاحات الحوكمة المطلوبة بشدة، وبالتالي الطريق الواضح للهروب من فخ الشعبوية.* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وكبير زملاء مركز إبداع الحوكمة الدولية.«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
احتواء عدوى الشعبوية
29-11-2016