صفحة من تاريخ المرأة في العراق (1-2)

نشر في 01-12-2016
آخر تحديث 01-12-2016 | 00:15
بدأت «معركة السفور والحجاب»، التي شغلت الرأي العام زمناً غير قصير، عندما قدم إلى بغداد لأول مرة الأمير غازي، فرحبت به حكومة ياسين الهاشمي، وأعدت له استقبالا شاركت فيه مدارس الذكور وساهمت فيه مدرسة واحدة من مدارس الإناث.
 خليل علي حيدر عندما بدأت بوادر معركة السفور وتحرر المرأة في العراق مع بدايات القرن العشرين كان المجتمع، كما في دول عربية وإسلامية عديدة أخرى، غارقا في الجمود والمحافظة والأمية، وربما بدأت المعركة عندما حاولت الحكومة العثمانية أن تحصي رعاياها.

وقد ألف العراقيون مثل هذه الإحصاءات السكانية، غير أن الجديد في الأمر أن الحكومة قررت ألا تكتفي بتسجيل الذكور، بل كذلك الإناث، فثار الرأي العام في بغداد، واعتبر ذلك العمل بدعة يجب مقاومتها وانتهاكا للحرمات، فقد كان المطلوب من الوالي عبدالوهاب باشا عام 1904 "أن يسجل عدد النسوة في العراق ويعطي لكل واحدة منهن تذكرة عثمانية، لا سيما مدن بغداد والموصل والبصرة بناء على طلب سلطاني صدر له من دار الخلافة الإسلامية في إستنبول، ولما شاع الأمر بين جموع أهالي بغداد قامت قيامتهم".

وخرجت المسيرات يتقدمها رؤساء الأحياء أو "المحلات"، لإعلان السخط والاستياء، مسلحين بالسيوف والخناجر والبنادق والمسدسات، بأهازيج شعبية "وهوسات" بغدادية، حتى جر الأمر إلى الاصطدام بين جموع الأهالي وحرس "الجاندرمة"، كما أن بعض النسوة من جميع المحلات خرجن بمظاهرة أيضاً، وفي الموصل كادت تنشب ثورة دامية للسبب نفسه!

ويقول الباحث "خيري العمري" في "تاريخ العراق الحديث"، إنه عندما أعلن الدستور العثماني للمرة الثانية في تموز يوليو عام 1908، وأقيمت الاحتفالات والمهرجانات في بغداد ابتهاجاً بنشره، خيل للشاعر "جميل صدقي الزهاوي" أن الفرصة قد سنحت له ليؤدي الدور الذي أداه "قاسم أمين" في مصر، فطفق يتبنى دعوة تحرير المرأة العراقية والدفاع عن حقوقها، وكان يومها أستاذا في مدرسة الحقوق ببغداد يدرّس أحكام "المجلة الشرعية"، ويحاول وهو في مستهل شبابه أن يشق طريقه في عالم الفكر والأدب، وأن يلفت الأنظار إليه، فنشر في جريدة "المؤيد" المصرية عام 1910 مقالة جاء فيها: "أجاز المسلمون أن يقسو الرجل فيطلق المرأة ويستبدلها بغيرها كسقط المتاع راداً إلى حضنها أطفالها الذين هم نتاج شهوته، وربما كانت المرأة الشرسة هي السبب لهذا الفراق، ولكن ما حيلة المرأة الوديعة إذا منيت برجل شرس الأخلاق؟ لماذا لم يجز المسلمون أن تطلق لتنجو من شراسته؟ وقد أشاعت بعض الصحف أن جماعة من النساء المظلومات شرعن يرتددن فراراً من معاشرة أزواجهن، فلا يلومن المسلمون إلا أنفسهم". ولم يكد هذا العدد من الجريدة المصرية يصل إلى بغداد وتتناقله الأيدي ويطلع عليه الجمهور حتى ثارت ثائرة الرأي العام، وأسرع "الشيخ سعيد النقشبندي" يرد عليه برسالة نارية عنوانها "السيف البارق في عنق المارق"، وطافت في أزقة بغداد جماهير غفيرة تطالب بعزل "الزهاوي" من وظيفته في مدرسة الحقوق واتخاذ الإجراءات الشديدة ضده، فنزل الوالي عند الرغبة وعزله فعلا.

ولم يستطع الزهاوي، يقول العمري، الصمود أمام هذه العاصفة التي أثارها، فسرعان ما انهارت أعصابه واستولى عليه رعب شديد، وبالرغم من أن بعض الأحرار في مصر "كوليّ الدين يكن" وغيره قد تطوعوا للدفاع عنه، إلا أنه لم يتمكن من الثبات في الميدان، فتوارى عن الأنظار خائفا وأسرع يرسل إلى الصحف ويقسم الأيمان الغليظة على أن المقالة المذكورة مدسوسة عليه من بعض المغرضين، وقد نشر في جريدة "الرقيب" البغدادية كتابا مفتوحا إلى الوالي.

وبالرغم مما لاقته "الدعوة إلى السفور" من مقاومة عنيفة في العراق فإنه لم يقض عليها، فسرعان ما تطورت الأوضاع الدولية والاجتماعية وزال نفوذ الخلافة العثمانية. وفي تركيا نفسها أمر "مصطفى أتاتورك" برفع النقاب ومنع الحجاب، وطالب الرجال بارتداء القبعة بدلا من الطربوش، وجرت محاولات مماثلة في إيران وأفغانستان، حيث كانت الصحف العراقية تتناقل أخبارها، ويتحدث الناس عنها في مجالسهم بين مستحسن ومستهجن، ولعل بعض الحوادث التي وقعت أول أيام الحكم الوطني، يقول الباحث العمري، كشف عن عجز المحافظين عن صد هذا التيار الجديد الذي أخذ يشق طريقه ببطء.

ففي فبراير 1922 أقام المعهد العلمي في بغداد مهرجاناً شعرياً عرف باسم "سوق عكاظ"، رأى بعض منظميه أن تساهم الفتاة العراقية فيه، وقد أبدى رئيس الوزراء يومها السيد "عبدالرحمن النقيب" امتعاضه من الخطوة، إلا أن الخطوة تمت في جو من الضجة والصخب، كما أقبلت السيدات على الاستماع إليه.

وفي مارس 1922 أنشد الشاعر "الرصافي" في حفل قصيدة هاجم فيها المحافظين والمتعصبين هجوما عنيفا في معرض الدفاع عن حقوق المرأة جاء فيها:

ألم ترهم أمسوا عبيداً لأنهم

على الذلّ شبوا في حجور إماء

وأقبح جهل في بني الشرق أنهم

يسمون أهل الجهل بالعلماء

وقد رد على "الرصافي" شاعر آخر هو "عبدالحسين الأزري" بقصيدة جاء فيها:

أكريمة الزوراء لا يذهب بك الـ

نهج المخالف بيئة الزوراء

حصروا علاجك بالسفور وما دروا

أن الذي حصروه عين الداء

وراحت جريدة "دجلة" تنظم حملة عنيفة ضد الرصافي، وتحمس رجال الدين في رفع الاحتجاجات وإصدار الفتاوى، ولكن "الرصافي" كان أشد صمودا من "الزهاوي"، وظهرت مقالات تدعو إلى العناية بتعليم المرأة وتثقيفها، كما صدرت بعض المجلات النسائية مثل "مجلة ليلى"، التي أصدرتها "بولينا حسون" عام 1923 والتي لم تستمر طويلاً في الصدور، فسرعان ما ذهبت ضحية خلاف بين جريدتي "العراق" و"العالم العربي"، فبينما أخذت الأخيرة تضع الزهور على رأسي "بولينا حسون"، وتعتبرها زعيمة النهضة النسائية، وقفت "العراق" تسخر وتتهكم وترشح سواها.

وقد بدأت "معركة السفور والحجاب"، التي شغلت الرأي العام زمناً غير قصير، عندما قدم إلى بغداد لأول مرة الأمير غازي، فرحبت به حكومة ياسين الهاشمي، وأعدت له استقبالا شاركت فيه مدارس الذكور وساهمت فيه مدرسة واحدة من مدارس الإناث، وخرجت فتيات المدرسة مرتديات زي الكشافة، وأعمارهن لم تكن تتجاوز الرابعة عشرة، وعلى رؤوسهن الآنسة "معزز برتو" مديرة المدرسة، فانبرت إحدى الصحف تهاجم المديرة وتنحي عليها باللوم وتعتبر العمل خروجاً عن الفضيلة وثورة على الآداب، وسرعان ما نشبت معركة صحافية حول القضية.

بالرغم مما لاقته «الدعوة إلى السفور» من مقاومة عنيفة في العراق فإنه لم يقض عليها
back to top