يجب أن يتبنى ترامب سياسة خارجية واقعية
خالف ترامب في حملته مجتمع السياسة الخارجية القوي في الولايات المتحدة، الذي دعاه أحد مستشاري أوباما بسخرية "الكتلة اللزجة"، ويشمل أعضاء هذا المجتمع ديمقراطيين وجمهوريين بارزين يملكون وجهات نظر متشابهة في السياسة الخارجية، واتهمهم "بالتسبب بالكارثة تلو الأخرى في السياسة الخارجية"، وتعهد "بتبني توجّه جديد في السياسة الخارجية في بلدنا"، وكانت هذه الرسالة التي أراد ناخبون كثر سماعها، وأمام الرئيس المنتخب اليوم فرصة لتغيير الأسلوب الذي تنشر به الولايات المتحدة قوتها حول العالم.خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، طبّق القادة الأميركيون سياسة الهيمنة الليبرالية، التي تدعو الولايات المتحدة إلى السيطرة على العالم بأسره، لكن الهيمنة الليبرالية استراتيجية مفلسة، عملت الولايات المتحدة على الإطاحة بأنظمة والترويج للديمقراطية في ستة بلدان في الشرق الأوسط الكبير: أفغانستان، ومصر، والعراق، وليبيا، وسورية، واليمن، إلا أن كلاً من هذه المحاولات فشلت فشلاً ذريعاً: تدور رحى الحرب في كل من هذه الدول باستثناء مصر، التي عادت إلى الحكم الدكتاتوري العسكري. فضلاً عن ذلك ضاعفت هذه الحملة مشكلة الإرهاب التي تواجهها الولايات المتحدة: تحوّل تنظيم "القاعدة" وتكاثر، ونخوض اليوم حرباً ضد "داعش"، الذي يُعتبر عموماً إحدى نتائج غزو الولايات المتحدة واحتلالها العراق.بدل محاولة السيطرة على العالم ونشر الديمقراطية على إدارة ترامب أن تركّز على الحفاظ على توازن القوى في ثلاث مناطق تُعتبر مهمة لأمن الولايات المتحدة: أوروبا، وشرق آسيا، والخليج العربي.
من الضروري أن يبذل ترامب جهوداً مكثفة بغية تحسين العلاقات مع روسيا، التي لا تشكّل خطراً كبيراً يهدد مصالح الولايات المتحدة، كذلك ما من خطر يهدد خليج المكسيك، مما يعني أن على الإدارة الجديدة إخراج معظم القوات العسكرية الأميركية من تلك المنطقة وإرسالها إلى مناطق بعيدة.فضلاً عن ذلك، على إدارة ترامب أن تسمح للقوى المحلية بالتعامل مع "داعش" وأن تقصر جهودها على تأمين المعلومات الاستخباراتية، والتدريب، والسلاح. يجب أن يعمل الرئيس الجديد أيضاً على تحسين العلاقات مع إيران، فلا تجني الولايات المتحدة أي فائدة من تخلي إيران عن الصفقة النووية الجديدة التي عقدتها أخيراً أو ترفض تجديدها لتسارع بعد ذلك إلى تطوير قنبلة.ولكن ثمة أخبار سيئة بشأن شرق آسيا. إن واصلت الصين نهضتها المذهلة فستحاول على الأرجح السيطرة على آسيا تماماً كما تهيمن الولايات المتحدة على نصف الكرة الأرضية الغربي، ومن الضروري أن تبذل إدارة ترامب جهوداً جبارة لتمنع الصين من التحول إلى قوة إقليمية مهيمنة.قد تميل واشنطن إلى الاعتماد على دول في آسيا لتحتوي الصين، إلا أن هذه الاستراتيجية لن تنجح، فلن تكون الصين على الأرجح أكثر قوة من جيرانها فحسب، بل تفصل بين هذه الدول أيضاً مسافات كبيرة، مما يصعّب عليها تشكيل ائتلاف موازنٍ فاعل، كذلك على الولايات المتحدة أن تنسق هذه الجهود وتدعمها بكامل ثقلها، لذلك تعتبر القيادة الأميركية بالغة الأهمية في التعاطي مع الصين التي تزداد قوة.من المؤسف أننا لا نعرف يقيناً ما إذا كانت إدارة ترامب قادرة على تبني الاستراتيجية الواقعية المذكورة أعلاه. لا شك أن مجتمع السياسة الخارجية، الذي تغوص جذوره عميقاً ويجمع فرقاء من الحزبين الكبيرين، سيبذل قصارى جهده ليكبح لجام الرئيس الجديد ويحرص على أن يلتزم بالهيمنة الليبرالية.ولكن إن انتصر مجتمع السياسة الخارجية، فسنشهد المزيد من الإرهاب، والمحاولات الفاشلة لنشر الديمقراطية، الحروب الخاسرة، والوفيات والدمار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط الكبير، والأهم من ذلك أن الولايات المتحدة ستواجه صعوبة أكبر في التركيز على احتواء الصين، وخصوصاً أن الهيمنة الليبرالية لا تحدد أي أولويات، بل تدعو إلى نشر الجيش الأميركي في كل مكان، لنأمل إذاً أن يتمكن ترامب، عندما يستلم منصبه، من إنزال الهزيمة بهذه "الكتلة اللزجة" بالسهولة عينها كما فعل خلال حملته.جون ميرشايمر