دوامة الدورات وقانون «الچذب»
أربعيني أعزب عاش بلا غاية، وقعت عيناه على كتابٍ لتنمية الذات من تأليف أحد الدكاترة، فوجد فيه كومة عبارات متكبكبة من البوذا والهندوس وصحيح مسلم، ملحوقةً بعبارات إدارة الأعمال المُطعمة بألفاظ علم النفس، والعنوان "الآن ستُغير حياتك إذا آمنت لي". أحب الكتابَ دون الاكتراث بمصداقية المحتوى وتفسير الآيات الملتوي، طالما أن الانتشاء المؤقت يتحقق، فانطلقت دورة الدكتور "اجذب رغباتك!"، بتذكرة بـ365 ديناراً لثلاثة أيام، مُلحقة بشهادة بختم الدكتور، ليتحول الزبائن، حتى الغائبون، إلى "قادة" المستقبل! الذين يصرح لهم ببيع دوراتهم التدريبية لغيرهم، لئلا تخمد رسالة التنمية البشرية! دخل الدكتور الصالة بانفعالات متكلفة وابتسامة هيستيرية، فليس هناك غَرض سوى انتشائهم فحسب، بغض النظر عن أن الدورات موادها كانت مرتبكة عقائديا ومتناقضة علميا ومحتوية لِما رُفض من نظريات علم النفس التي انُتقيت لغرابتها الفاتنة فحسب، وكل هذا مُزج بمقولات شعبية مصحوبة بهيبة فقاعات لفظية مثل (الشاكرا- قانون الجذب- العلاج بخط الزمن)، فحسبك أن هذه الادعاءات العلاجية تجاوزت عشرات السنين بلا اعتماد أكاديمي. ناهيك عن أن قانون الجذب هو سرطان عقدي، تقوم فكرته على أن يكون العقل هو مُقدر القضاء والقدر، بحجة أنك إذا ركزت على شيءٍ فسيظهر لك، وليكون ظهوره في إدراكك هو دليل إيجادك له جذباً. لم تكن هذه الشركيات المعاصرة لتترك بدون مساءلة، فهي تذكر الجمهور بحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم: "الشرك في أمتي أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصفاة السوداء". فلا يغير الحياة إلا خالقها، ولماذا نلجأ إلى تغييرها برمتها أساساً ونحن نرضى القدر؟ فكان رد الدكتور إنها "السلبية" التي تحرمهم تقبل حقيقة قانون الجذب. ورغم التشكيكات فإن الدكتور لم ينتهِ عن منح "السلبي" منهم شهادة معتمدة بأنه غدا مثله يعالج الاكتئاب والقلق وألم المفاصل بجلسة ربع ساعة قيمتها ٣٠٠ دينار لأي "إيجابي" يقرع الباب، فقام أحد "المُدربين الجدد" وبدأ الأربعيني أول دورة باسمه! اشترى حساب "تويتر"، فحجز صالة فندق بإيجار 10دنانير، وأطلق عنوان "أنت تغير حياتك بأفكارك" بقيمة 200 دينار لمدة ثلاث ساعات كذب على الحضور، ووعدهم بأنهم سيخرجون مثله "شعلة أمل"، وامتلأ جيبه، والوجوه باسمة بغرام انهزامي.
عوداً إلى الواقع أعرب بروفيسور علم النفس كامل الفراج عن فظاعة دوامة الألم والأمل التي تسببها الدورات غير المراقبة، كما فند بشراسة زميله السعودي د. عبدالله الملحم الآليات التي يتضاعف بها اكتئاب المكتئبين، الذين هم الفئة الأغلب التي تستسلم لتلك المُنتجات، ناهيك عن أنه إسلامياً لا ينبغي إبدال القضاء والقدر بالعقل الباطن، واستبدال الدعاء بقانون "الچذب" الذي يصدنا عن الحمد، فكيف أمتنّ لأحد وأنا الجاذب؟ فهذا يحرمنا من أهم شعور بطب النفس ألا وهو "الامتنان"، فحتى القس الكَنَديّ دايكن صرح بأن تأليه التنمية البشرية للعقل الباطن يخيب الناس ليشرخ شخصيتهم، عِلماً أنه طبيب نفساني، لكنني سأحسمها بالقول: "التنمية نشأت من الأديان كدين، وما الدين سوى معتقدات وسلوكيات يتبناها التابعون، والتنمية تأسست على أماني الكسالى بنعيم لحظة وهمية، مشروطة بهزيمة الفكرة!".