اخيرا فهم الرئيس
حين ثارت رومانيا على تشاوتشسكو أطلق عسكري لا أحد يتذكر اسمه الآن رصاصة لم تكلف قروشا قليلة على رأس الدكتاتور، وفي داخله سؤال لم يجب عنه أحد: هل يعادل ثمن هذه الرصاصة مئة ألف روح أزهقها صاحب ذلك الرأس المثقوب؟الذي لم يتعلمه النظام المستبد – أي نظام مستبد- هو أن ثورة الشعب اذا ما حدثت فإنها تعطل كل أجهزة الفتك التي يمتلكها رأس النظام. فجأة تتلاشى القوى الظاهرة الممثلة بجيوشه التي تأتمر بأمره وحرسه الثوري الذي لا يرى غيره اماما وقائدا ملهما وجبارا فاتكا، تتلاشى شرطته العلنية فجأة تتلاشى قوته السرية ورجال مخابراته وأمنه الشخصي ويبقى وحيدا عاريا واذا كان ذكيا استطاع تحديد ساعة الصفر التي يفر فيها. الساعة التي يراها كل رجالاته وجنرالاته فيتخلون في دقائقها الأولى عن بزاتهم اعلانا منهم بتخليهم عنه ويلتحقون بصفوف الشعب. أما اذا كان غبيا، وهي الحالة الأكثر شيوعا، فإن كل ترسانته المسلحة وقواته الماشية والراكبة والطائرة تختزل حجمها في الرصاصة الأخيرة التي يطلقها جندي لن يتذكر أحد اسمه على رأسه.
قبل أن يهرب شرطي تونس بليلة واحدة وقف يخاطب الشعب قائلا جملة كررها مرتين: أنا الآن فهمتكم، أنا الآن فهمتكم. حالة الفهم التي نزلت فجأة على عقل الرئيس الذي كان سيبقى من دونها رئيسا الى الأبد حالة متأخرة جدا. فلم يكن بإمكانها أن تسمح له بالبقاء ليلة واحدة. حالة الفهم التي كانت ممكنة في بداية استلام السلطة والعمل على تنويع مصادرها وتبادلها بكل شفافية مع المؤسسات السياسية المشابهة أصبحت حالة من اليأس وليست حالة فهم كما شخصها الشرطي الرئيس تشخيصا لا ينم حقيقة عن الفهم، وانما عن عدم الفهم الذي لازمه طوال حياته. فحالة الفهم الأخيرة بالنسبة له هي البقاء قليلا وليس الرحيل أبدا وهو ما رفضه الشعب الذي أصر على رحيله بعد ليلة واحدة من فهمه المتأخر. حالات الفهم التي سيطلقها الكثير من ملاك السلطة الأبدية وأعداء الديمقراطية الحقيقية يجب أن تأتي في وقتها، بالرغم من ايماننا بأن هذه الأنظمة ستنتظر اللحظة الأخيرة لإعلانها، ووقتها هو الآن وليس في الليلة التي تسبق اقلاع طائرة السيد الرئيس. يجب مصالحة الشعوب بشيء وحيد لا بديل عنه هو تبادل السلطة بشكل سلمي وانتقالها الى مؤسسات الشعب بكل شفافية وصدق.الزمن يتغير سريعا وبشكل دراماتيكي كبير والمؤسسات العالمية ترعى حركات التغيير السياسي الشعبي وتؤمن بحق الآخر في التجربة والاختيار. العالم يرتبط اليوم بقنوات اتصال غير مسبوقة حتى أصبح تعليق القارئ العادي جزءا من الخبر في نشرات الأخبار العالمية. فالإعلام الذي امتلكته السلطة لعقود طويلة تغيرت هيئته من الاعلام الرسمي الذي يتلو علينا خبر الرئيس واستقبالاته وانجازاته الى الاعلام الاجتماعي Social Media والذي يشارك التعليق فيه الطالب والعامل وسيدة البيت ورجل الفكر عبر الفيس بوك والتويتر. ففي أغلب القنوات الغربية تمت قراءة ما يحدث في مصر الآن نقلا عن تعليقات هؤلاء المعلقين. ذلك ما يفسر اغلاق هذا الاعلام في مصر في الايام الأخيرة كجزء من التعامل مع المسيرات الشعبية.لا يسرنا اضطراب الناس ولا الفوضى التي تخلقها حالة الاضطراب ولا يسرنا أن نفقد ضحايا في نزاع شعبي بقدر ما يغيظنا أن يتأخر فهم النظام لمطالب الناس.