الذكي والعبقري

نشر في 20-02-2011
آخر تحديث 20-02-2011 | 00:00
 ناصر الظفيري هناك أسماء بلا شك كبيرة بعطائها النقدي والأدبي، وليس منا من يشك في قدرتها الإبداعية أو مكانتها على خريطة الثقافة العربية، ولكنها أسماء شاءت أن تفصل بين موقفها الأدبي وموقفها السياسي، وتأخذ موقفاً مخالفاً لموقف الإنسان البسيط الذي يحلم بالحرية وبفرصة عيش كريمة. هذه الأسماء تعلّم الآخر أن ينحاز للإنسان حين يبحث عن العدالة الاجتماعية، ويطالب بحريته التي منحها إياه الخالق وسلبها منه المخلوق. هذه الأسماء تعلّم الآخر فيثق بها وهي تطالبه بأن يطالب بحقه في العيش الكريم، وأن يقول لا حين يصل الظلم إلى ذروة لا تطاق. وحين يصدّق التلامذة أحاديث الأستاذ يخرجون بحناجرهم لا بخناجرهم يطالبون بما هو حق لهم فيفاجئهم الأستاذ المعلم بوقوفه بقوة ضد حقوقهم، ويرفع لهم كرباج السيد وأتباع السيد، وحين ينجحون رغماً عن أنفه ينسل خارجاً محتجاً بأن صحته لا تحتمل حمل الكرباج أكثر.

جابر عصفور مثال صارخ لهذا المعلم، وصدمة الجيل المثقف به كبيرة وهو يقف بوجه هذا الإنسان البسيط الذي تساوى لديه الموت في الميدان أو الموت جوعاً وقهراً. في خضم الثورة واشتعالها يختار أن يقول نعم ويحتضن كرسي الوزارة بعد هذا العمر الطويل، وهو يعلم بحكم الخبرة والتجربة أنه يختار نهايته لا بدايته. لم يكن جابر عصفور ذكياً ولا أقول عبقرياً، للفجوة الواسعة بين الكلمتين، وهو يختار النظام ولو مدة أسبوع واحد، لم يكن يعرف الحساب ولا ما يسميه الغرب «After math» أو نتائج الحساب وهو ينهي تاريخاً صنعه بعقله وفكره بهذه السرعة الخاطفة. صحة جابر عصفور التي اعتلت فجأة بعد أسبوع من ثورة الشباب كانت صحة فكر لا جسد. وانسحابه كان محاولة لتدارك انهيار هذا التاريخ من العطاء.

أشعر بكم الألم الذي يعتصر طلابه ومحبيه هناك في مصر وهنا في الكويت، ولكن كما قالت العرب «سبق السيف العذل»، ولم يبق من تجربة عصفور الذي لا يسعفه الوقت ولا العمر للتكفير عنها سوى الاقتداء بها، فربما كان الدرس الذي قدمته تجربة عصفور الأخيرة تعادل كم المحاضرات التي ألقاها والدراسات التي قدمها. وأتمنى عليه ألا يخرج لنا مبرراً تجربته بأنها محاولة للإصلاح، وأنه كان ينوي بقبوله الوزارة إعادة الهرم المقلوب إلى حالته الطبيعية، أتمنى عليه فقط أن يثق بعقولنا وألا يكون كالمثال القادم الذي سنطرحه.

هو ليس بقامة جابر عصفور، ولكنه صورة نمطية للإعلامي المنافق بامتياز، الذي انقلب على سيده قبل أن يصل الأخير إلى مقر إقامته. فجأة يتحول عمرو أديب من المنادين بالرئيس مبارك والثائر بوجه الثوار إلى المناضل المسكين الذي عاش الذل تحت حكم مبارك، ونادى قبل الآخرين بالثورة وتحدث بصفاقة جعلتني أتمنى أن يعود مبارك لأرى كيف بإمكانه أن يستبدل جلده مرة أخرى. عمرو أديب الذي صنع الكوارث بالإعلام اكتشف فجأة أنه ضحية، وأنه كان مناضلاً ضد الظلم، ولكن مشكلته تكمن في أنه اكتشف ذلك فجأة.

طرده الناس من الميدان وهم يصرخون «امشي يا عمرو مش عاوزينك»، ومع ذلك عاد دون حياء ليقول لهم أنا من نادى في برنامجه بالثورة على مبارك، ولكنكم سمعتم صوتي ولم تنظروا إلى سريرتي.

المثالان أعلاه، وبالرغم من تمايزهما العقلي والمعرفي، هما ما سنرى في القادم من الأيام. إنهما يمثلان الرجل الذكي الذي يريد نفسه أولاً ودائماً، ويبحث عن ذاته تحت وطأة الظرف الجديد.

الفرق بين الذكي والعبقري هو أن العبقري من يريد أمته أولاً ولا يهمه أين يكون موقعه. العبقري هنا شاب اسمه وائل غنيم!

back to top