كان الراحل الأديب الطيب صالح يكتب زاوية في مجلة «المجلة» اسمها (نحو أفق بعيد)، ولمدة عقد كامل من الزمن، وفي احدى مقالاته تلك كتب مقالا جريئا هاجم فيه نفسه وتخاذلها حين سألته احدى السيدات الغربيات عن صمته وصمت بقية المثقفين عن اعدام المفكر السوداني محمود محمد طه، والذي أعدمه النظام السوداني بقيادة الرئيس جعفر النميري في مثل هذه الأيام في الثامن عشر من يناير 1985. وكان طه أيامها قد قارب الثمانين من عمره. فجاء رد الطيب الصالح والذي نشره في المقالة آنذاك ان ما يجعله يصمت عن ذلك هو الحفاظ على مكتسبات حياته. والذين ينظرون الى رد الطيب برد المتخاذل يتجاهلون واقعية الرد. فما تحدث به الطيب هو الموقف بواقعية دون ادعاء بطولات زائفة وتلاعب بالألفاظ. وهو رأي شجاع وان لم نتفق معه.

Ad

الطيب صالح لم يدافع عن الشيخ محمود طه ولكنه وفي ذات الوقت لم يساهم في اعدامه ولم يناصر الطاغية على اعدامه بل كل ما فعله هو الصمت حين رأى فيه منجاة. وذلك موقف يتخذه المثقف المعتدل عادة وهو موقف أقل من الطموح ولا يماثل الموقف المناضل الذي يدفع فيه مثقف آخر حريته أو حياته ثمنا. واذا تركنا هذين الموقفين جانبا، رغم اتساع الهوة بينهما، ونظرنا الى المواقف التي لا نجد لها ما يبررها سوى الانتهازية وسوء التقدير وضعف الشخصية ونقصد هنا مواقف انضمام المثقف الى جيش الطاغية والعمل معه كأحد أكياس الرمل التي يتحصن بها من الجمهور المطالب برحيله. وليس لنا أن نعدد كم المثقفين من المفكرين والشعراء والصحافيين والفنانين الذي ساهموا في صنع صورة مناقضة للصورة الحقيقية للرئيس البطل الذي لا يقهر والزعيم الضرورة والقائد الملهم.

لا يوجد وصف يمكن أن نطلقه على العقل والقلم والصوت وجميع أدوات المثقف التي سخرت قدراتها لتكون في خدمة السيد الأول وبقية السادة الذين تدرجوا تحت قمة الهرم السياسي الذي يجلس السيد على قمته بعقد أبدي كتبه بأسلحة القمع وحصنه بسجون بعضها ظاهر وبعضها لا يعلمه الا الله وقلة قليلة من زبانيته. لا يوجد وصف يمكن أن نصف به مثقف يكتب بالأمس عن عبقرية الرئيس وضرورة بقائه الى الأبد رئيسا للشعب الذي عليه أن يسجد شكرا لله الذي منحه قائدا ملهما كقائده ويتبرأ اليوم من ذنبه ويشتكي قلة حيلته وعجزه أمام سطوة القائد الذي هرب بجلده بعد أول صرخة للشعب في وجهه.

الحقيقة التي يعتمد عليها هذا المثقف الأفاق هي طيبة الشعب وتسامحه وسعة صدره التي تحتضن بسرعة عودة المثقف الضال. فلم يحاكم الشعب يوما مفكرا أو شاعرا أو مغنيا كرّس غاية جهده لخدمة طاغية ونحن لا نطالب بذلك ولا ندعو اليه، ولكننا ندعو مثقفينا وشعراءنا ووفنانينا الى أن يفهموا الدرس. فطاغية العراق لم يترك دينارا هرب من الترسانة العسكرية الا ودفع به الى شاعر أو كاتب أو مطرب ليمجد تاريخه الفج وبطولاته الدان كخوتية، وحين أعدم وحيدا انفض الجميع عائدين الى صدور شعوبهم وكأنهم لم يقترفوا بحقها شيئا. وها هو شرطي تونس يترك كل تاريخه الحديدي ليحافظ على الهواء في قصبته ويتبرأ منه كتّابه وفنانوه ويطلبون العودة الى شعبهم الذي أثق بأنه سيأخذهم الى صدره.

ولكن السؤال هو متى نتعلم؟ متى نتعلم ألا نأكل خبز أفران سجارها عظام البسطاء من أبناء جلدتنا؟ متى نتعلم ألا نعمل كأكياس الرمل في متاريس السيد الرئيس؟ متى نتعلم؟