هناك سلسلة كتب ربما هي الأكثر شهرة والأكثر مبيعاً في أميركا الشمالية رغم قسوة عناوينها التي تنتهي بكلمة (للأغبياء). تتنوع الكتب لتشمل فصولا مختلفة من المعرفة ابتداء من الحرف البسيطة وانتهاء ببرامج تشغيل الكمبيوتر. والغباء هنا صفة معرفية طبيعية وليست إهانة. فالسلسلة بدأت عام 1991 حين انتشرت أجهزة الكمبيوتر الشخصية واحتاج المستخدم إلى دليل تشغيل هذه الأجهزة الشخصية فظهر كتاب «دوس للأغبياء» واستمرت السلسلة لتبلغ مبيعاتها مئات الملايين من النسخ في مختلف الحقول. وبالرغم من الرسم الساخر الذي مازلت أتذكره عن الرئيس الأميركي جورج بوش وهو يتأبط كتاب «السياسة للأغبياء»، صدرت المجموعة في مجالات الكمبيوتر والرياضة والصحة والتاريخ والحرف الصغيرة، ولكن الدار لم تجرؤ على نشر كتاب «الرواية للأغبياء» أو «الشعر للأغبياء». لم تجرؤ دار النشر أن تنتقص من ذكائها المدهش لتمارس غباء نشر كتب لن تلقى اقبالا أو رواجا مطلقا.

Ad

بالرغم من احترامي لمجموعة من الكتاب الكبار وعلى رأسهم ميلان كونديرا الذي نشر كتابه «فن الرواية» ردا على غضبه من بتر لقاءاته الصحافية وتحويرها وكان يشترط المشاركة في تحرير أي لقاء أدبي يجريه معه صحافي، ثم توقف عن اجراء اللقاءات الصحافية ونشر كتابه المذكور. لم يكن الكتاب دليلا لكتابة الرواية وانما نظرة كونديرا للرواية التي ترتكز على محورين أساسيين: الثيمة أو الفكرة والحكاية ويشبهها كونديرا بكيكة من طابقين وعلى الروائي أن يتمكن من ملء الطابقين. بالرغم من ذلك المنهج الميلاني أو الكونديري أرى أن أي نصيحة يمكن تقديمها لكتابة رواية تعادل النصيحة التي يمكن أن نقدمها لشاعر ليكتب شعرا في الحالتين نصيحة خائبة.

لا تصلح الرواية والشعر على حد سواء أن يكونا ضمن مجالات سلسلة الأغبياء لاعتمادهما ملكة الخيال قبل ملكة التقنية الروائية. نقاد الرواية والشعر يفوقون الروائي معرفة بتقنية الكتابة الروائية والشعرية ولكن ذلك لا يسعفهم أن يكونوا شعراء أو روائيين الا لمن امتلك منهم ملكة الخيال وهي ملكة لا تكتسب بالتعلم.

الافتقار الى ملكة الخيال هو الملمح الرئيسي ويكاد يكون المشترك في الرواية العربية والخوف أن يصيبها ذات الداء الذي أصاب الشعر حين استسهله كتابه وأضاعوا بهاءه. وبالمناسبة رؤية كونديرا في الرواية يمكن تطبيقها على الشعر بشكل كبير، فهو أيضا كيكة بطابقين وعلى الشاعر ملء الطابقين بالفكرة والشعر. الأقرب لتقديم كيكة من طابق واحد هم شعراء النظم، والشعر المقفى بشكل خاص، وكان بعض الشعراء يحتفظ بقاموس كلمات تتشابه في الروي لاستخدامها في ملء الفراغ متى ما عجزت الذاكرة في ايجاد ذلك الروي.

ونحن اليوم نرى الكثير من روايات النظم أو روايات الكيكة ذات الطابق الواحد التي تفتقر الى الثيمة أو الفكرة وتحتفظ بمستوى وحيد من الحكي. هي روايات لا تتجاوز شخوص أصحابها أو معارفهم وحكاياتهم، روايات تفتقد لخلق مكانها وشخصياتها وثيمتها وتظهر جميع شخصياتها كأشخاص تعرّف عليهم الكاتب وربما يعرفونه أكثر من معرفته بهم. لن أضرب مثلا برواية النظم ولكن سأقدم رواية ينطبق عليها المفهوم الكونديري وهي رواية «الحمامة» لباتريك زوسكيند صاحب رواية «العطر» الشهيرة. فالسيد جوناثان نويل شخصية العمل الأولى يقف على مبعدة تامة من الروائي والراوي ولكنه يسكن أعماقك أنت كقارئ اذا بحثت جيدا في داخلك. انها رواية المزج الصعب بين الفكرة النفسية والفلسفية لإنسان هذا العصر والحكاية.

اذا أردتم أن تقولوا شيئا لكتابكم الشباب للابتعاد عن الاستسهال في الكتابة الروائية فأنصحوهم بامتلاك ما افتقدتموه: الخيال الروائي.