في شهر نوفمبر الماضي أثناء زيارتي الأخيرة للوطن دعاني ومجموعة من الأصدقاء، من بينهم الضيف العزيز نذير جعفر، السيد صبيح السلطان الى عشاء في منزله والتقيت الدكتور خلدون النقيب لأول مرة وكان المرض قد تمكن منه، وهو المرض الذي حرمني من محاضرة سابقة له في ملتقى الثلاثاء. في تلك الجلسة الخاصة كان الدكتور هادئا يتكلم بصوت خفيض ولم يفارقه الأدب الجم والتواضع الذي عرف بهما أثناء حياته العملية والمهنية. وعلى المرء أن يبذل جهدا استثنائيا ليعرف أن وراء هذا الهدوء قلما عاصفا لا يهادن وفكرا حادا سطر به اسمه واسم بلده الكويت كأحد أبرز مفكري علم الاجتماع السياسي وأبرز من ناقش القبيلة والدولة في الكويت والخليج العربي.

Ad

كلما رحل أحد العمالقة أنظر الى الوطن يكبر في عيني وأحد الأصدقاء العرب يسألني دون أن يتمكن من اخفاء خبث السؤال: هل فلان فعلا كويتي؟ وآخرهم سؤال أمس عن الدكتور خلدون النقيب. وفي كل اجابة أقول فيها نعم أرى الوطن أكبر من خيالات السائل وأشعر بالشفقة نحو بعض أهله الذين ينظرون لهذا الوطن كأنبوب غاز ودكان لبيع النفط ويكرسون تلك النظرة في أعين الآخرين حتى يوقظهم موت رجل كأحمد الربعي أو خلدون النقيب.

رحل النقيب قبل يومين من كتابة هذا المقال وتناولت الصحف والأقلام العربية وزملاء مهنة الدكتور خبر رحيله لتؤكد دون اخبار مباشر بأن الكويت البلد الصغير على الخليج أنجب رجالا لم يخدمهم مجتمعهم ولم يسوّق لهم بل على العكس منعت كتبهم وأطروحاتهم في أغلب الأحيان عن أهليهم وانتشرت بفعل المد المعرفي والتواصل الاجتماعي ككتب رصينة منهجية حققت أعلى شروط البحث العلمي دون أن تبحث عن قبول أهل الاختلاف معها ولكنها تقبلت اختلافهم.

رحل المفكر النقيب في وقت نحن والعالم العربي بأمس الحاجة اليه في ظل هذه التقلبات الاجتماعية وهو الرجل الذي ناقش فقه تخلفنا في زمن العولمة ورصد أثر القبيلة على الحياة الديمقراطية. في ظل هذه التغيرات العارمة في الوطن نرى حاجتنا الى الدكتور النقيب موجها لطلبته ومريديه وهم يرصدون أثر الثورات العربية المتتالية وما صنعته العولمة التي أرهبتنا في بادئ الأمر لتفتح لنا كوة رائعة من الأمل وهي تجمع الشعب تحت صوت واحد «الشعب يريد...».

رحل النقيب وما زالت أغلب كتبه تباع في بلد وتمنع في بلد وربما لولا العولمة والقرية الكونية لما استطاع صاحبي العربي حتى أن يتعرف على فكر النقيب السياسي ودراساته التي ساهم النشر الالكتروني بتوزيعها من قطب الكرة الأرضية الى قطبها الآخر.

رحل المفكر ونحن نتلمس أول خيوط التغيير وهي تتشابك في أيدينا فلا نعرف كيف ننسجها أوطانا ديمقراطية ومدنية تكفل حق الفرد بغض النظر عن دينه أو عرقه أو مذهبه أو قبيلته. وعزاؤنا الوحيد أن الرجل شهد بدايات التغيير معنا حتى وان لم يتمكن من أن يقول فيه شيئا لنا.

خلدون النقيب إحدى أوراقنا الخضراء التي سقطت لكنها لم تمت تماما. لك الرحمة وليس لنا النسيان.