كم يحتاج الكتاب الجاد والعمل المميز من جهد وعناء وذهنية متقدة، وربما صاحب ذلك عوز وفاقة وعزلة واعتزال؟ في المقابل كم نحتاج من جهد وعناء وذهنية متقدة لحرق كتاب وإلغاء عمل مميز لأحد كتابنا العمالقة؟ المقارنة بين الفعل المنتج الأول وفعل الإلغاء الثاني هي المقارنة بين السلب والإيجاب، بين الشيء واللاشيء، بين الوجود والعدم. والآن ما الفرق بين المنتج المبدع صاحب الجهد والإبداع والذهن المتقد وصاحب النار الذي يجتهد في حرق ما ينتجه الآخر؟ المقارنة بين الفاعلين هنا ليست أقل قسوة من المقارنة بين الفعلين، فالأول رمز لحضارة وثقافة مجتمع وأمة ولغة، والثاني رمز لضلالة وظلام عصر، الأول كائن أبدي يمرض ولا يموت، يبخس حقه عصر مظلم وينصفه عصر مضيء، والثاني، على العكس تماماً، يعيش في الظلمة ويقتله النور.

Ad

هذه المقدمة الطويلة كان لا بد منها لنفهم في أي عصر نعيش، لنقيس جهلنا ودرجة الظلمة من حولنا، لنقيّم ما وصلنا إليه وما سنؤول إليه إذا تمكن منا الجهل. ولكننا وبالرغم من كل ما يحدث حولنا نثق جيداً بالتاريخ، ونثق بأن من حاول أن يطفئ نور وعينا وثقافتنا كان يفشل أبداً، ولكننا أيضاً نعترف له بأنه ينجح في تأخرنا، وينجح في التعلق بثيابنا ليجرنا إلى الخلف.

الحناجر الصدئة التي تطالبنا بحرق تراثنا الفكري بحجة وهم الجنس الذي يسيطر على عقول هذه الحناجر أكثر من سواهم هي الرموز التي ترى إبداعها في عود الثقاب وكومة الحطب. هذه الرموز الجاهلة ترى في جميع كتبنا التي تختلف مع توجهاتها المؤطرة وأفقها الضيق كتباً مارقة خارجة عن حدود الأدب والفعل الأدبي، ونحن لن نطالبها ببدائل أدبية لأننا نعلم، كما تعلم هذه الرموز، أنها لا تمتلكها، ولكننا نطالبها بأن ترفع يدها عن أدبنا، وترفع وصايتها عن العامة، وقبل ذلك ترفع وصايتها عن النخبة.

الذين يطالبون بحرق كتاب ألف ليلة وليلة، ويعترضون على إعادة طباعته ينكرون على مبدعينا كتاباً شكّل النواة الأولى لإبداعهم، وهو بالرغم من ذلك كتاب نخبة لا كتاب عامة، ويرون في تنفيذ مطالبهم مقياس سطوتهم ونفوذهم، وإذا نجحوا في ذلك فلن يتأثر كتاب ألف ليلة وليلة الذي حفظه الغرب وأسماه الليالي العربية، وحفظته النخبة المثقفة، أما الذي سيتأثر فهو لون عصرنا الذي نعيش، وسيكثر اللون الرمادي حتى يطغى على كل بياض.

ستستمر الدعوة إلى إلغاء كتب كثيرة مشابهة لألف ليلة وليلة، وسينجح المحامي الملتحي والطبيب الملتحي والنجار الملتحي في رفع قضايا حسبة على ابن الرومي، وسيعدم ديوانه المليء بالجنس، وسينجح كل ملتح ذكر بالغ عاقل في رفع دعوى حسبة على كتاب «بلاغات النساء» و»ثغر عدن» و»عشق الجواري» و»عشق الغلمان»، وسينجحون في حرق جميع كتبنا وتراثنا ليبقى لدينا كتاب واحد وحيد.

لكي ننتصر على هذه الرموز الجاهلة علينا أن نطبع هذه الكتب في أي بلد يسمح لنا بطباعتها، وستصل بكل سهولة إلى كل مهتم بالتراث أو باحث أو حتى قارئ مستمتع. القلم أقوى من نيرانهم والوسائل المتوافرة اليوم ستسهل مهمة حفظ تراثنا من أعواد ثقابهم.