هذا التنازع المثير حول الاستئثار بتركة الشاعر محمود درويش الشعرية، وهي ديوان أو قصائد متفرقة للشاعر، هو تنازع مثير للخجل والشفقة معا. أولا لأن الشاعر، وهو يعلم أنه في رحلة صعبة ويواجه الموت مرة أخرى بعد مواجهة سابقة، لم يوص أحدا بنشر الأعمال، وربما هو يعلم أكثر من سواه أنها أعمال غير مكتملة وله وحده فرصة نشرها ان عاد اليها سليما أو رفضها. وثانيا إذا كان ولابد من نشر القصائد، فيجب أن تنشر كما هي بعد تنويه بسيط ان القصائد ليست سوى مسودات قصائد أو قصائد غير مكتملة.

Ad

المتناحرون على التركة الأخيرة لم يحققوا أيا من الأمرين وهم بما يفعلونه اليوم ينفون صفة الوفاء لشاعرهم الكبير ويعرضون حساباتهم الشخصية ومآربهم من الاستئثار بهذه التركة، فالأول وهو الروائي الياس خوري صديق الشاعر يحتفظ بالنصوص الأصلية ويقدمها مطبوعة وليس كنصوص أصلية للثاني وهو الناشر رياض الريس. الروائي الياس خورى يضع جهداً شخصياً لهذا العمل ويفرضه بملحق للقصائد بتوقيعه، أما الثاني فمصيبته أكبر حسب ما صرح به شخصيا لجريدة <القدس> حين اتهم الياس خوري بأنه السبب وراء الأخطاء الشعرية التي جاءت في النشر الأول، وما يود عمله يبدو لي أنه خيانة كبيرة ليس لدرويش الشاعر وانما لمهمة النشر الأدبي.

ما يعرضه رياض الريس هنا هو أمر خطير يجب أن يتوقف عنه فورا. يقول الريس انه سيعيد نشر العمل الشعري الأخير لمحمود درويش بعد أن يقوم خمسة شعراء بتصحيحه وتنقيحه، وهو ما يمكن اعتباره كتابة أخرى ليس لدرويش علاقة بها أيا كان هؤلاء الشعراء ومهما كانت مكانتهم، ونحن حتى الآن لا نعرف من هم، لأن ما سيقوم به الشعراء الخمسة ليس تصحيح خطأ مطبعي أو نحوي وانما اعادة كتابة الصوت الشعري، أو بمعنى آخر أن يلبس هؤلاء الشعراء رداء الشاعر ويدخلوا ذهنه ويستحضروا روحه ثم يخروجوا، متفقين، بما كان يجب أن يكتبه الشاعر وليس بما كتبه فعلا.

أتصور أن هؤلاء الشعراء سيرون درويش وقد أسخط <مفعولن> وأغضب <فاعلن> وأهان <سببا> واستهان بـ>وتد> وهم بقوتهم الخماسية سيعيدون الكرامة والتبجيل إلى هذه القوالب المنهارة درويشيا. ذلك حتما يتطلب أن تتغير الموسيقى الأولى التي أرادها الشاعر أو الصوت الحقيقي الذي تركه درويش على الورق المستباح. اذا كان رياض الريس يرى أن ذلك سيفرح روح الشاعر فهو واهم، وإذا قبل الشعراء بمهمة تقمص النفس الشاعري للشاعر فسيخسرون أصواتهم. الحل الوحيد هو أن تبقى القصائد كما هي، وأن يتنازل عنها الروائي الياس الخوري وتنشر مصورة الى جانب الديوان المطبوع كملحق مهم وأكثر تشويقا للقارئ من ملحقه المنشور، أما أن يترك النسخ الأصلية بحوزته كسر من أسراره، فذلك ما سيترك أصابع من الريبة والشك تتجه نحو نيته.

<لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي> ديوان شعر سيبقى طويلا بين شد وجذب بعيدا عن المخلصين فعلا لشاعرية درويش وتاريخه الجميل شعرا وأكرر هنا شعرا، أما أصدقاؤه فلا يبحثون عن شيء سوى ظل قامته الشعرية، وطبعات متكررة تصحبها ضجات أغلبها مفتعل ومردودها مغر، أما درويش فسيصبون في أذنيه الرصاص كي لا يسمعهم ويضعون على صدره أبازيم الحديد كي ينهض فقط حين يريدون له أن ينهض.

هو شاعركم وصديقكم أكثر منا فاجلدوه إنه ميت. واصدقوا نبوءته: يحبونني ميتا ليقولوا كان منا وكان لنا.