قبل أسابيع تعطّلت سيارتي على أحد الطرق السريعة وفي مكان منعزل عن المدينة. اتصلت بخدمة نقل السيارات فأرسلت الشركة أقرب سيارة لتقلني وسيارتي الى المدينة، وكان السائق رجلا فوق الستين من عمره، حين صعدت إلى السيارة لفت نظري وجود ثلاث روايات فوق لوحة العدادات. صور الأغلفة توحي بأنها روايات جيب رخيصة، كان ذلك مفتاحا جيدا لأول الحوار بيننا، سألته ان كان يحب قراءة الرواية، فأجاب بنعم، ثم أكمل: انني في معزل عن المدينة كما ترى وهذه الروايات مسلية لقضاء الوقت، فسألته ان كانت الروايات جيدة وينصحني بقراءتها، فقال: لا أعلم، لكنها كتبت لمن هم مثلي ممن لم يكملوا تعليمهم الثانوي.
قد يكون صاحبي هذا لم يكمل تعليمه الثانوي، لكن الروائي الذي كتب تلك الرواية لا بد أنه أكمل تعليمه أو على الأقل درس الرواية وأساليبها وهو -أي الكاتب- يعرف جيدا أنه يكتب رواية لقارئ بمواصفات خاصة، قارئ يجد قليلا من الوقت الضائع وعليه أن يزجيه بشيء يراه مفيدا كالقراءة بغض النظر عن المحتوى المقروء، ذلك هدف من أهداف الكتابة الروائية ونظرة مقبولة للروائي الذي لا يرى أن الرواية عمل نخبوي تتخصص به فئة دون سواها. يحق للناقد والأكاديمي أن ينصحا طلبتهما ومريديهما بالابتعاد عن تلك الكتب، ولا يحق لهما أن ينصحا جميع الفئات بألّا تقرأ سوى الروايات التي يشيران عليهم بها، كما فعل الأكاديميون برواية «شفرة دافنشي» ووصموها برواية البروبوغندا وقبلها رواية «كوخ العم توم».تلك الروايات البسيطة في حبكتها وعوالمها وشخصياتها التي تزخر بها المكتبات الأجنية، ويقبل عليها الكثير من القراء، تكاد تكون معدومة في العالم العربي لغياب ظاهرة القراءة كفعل حضاري متباين بين الجيد والأكثر جودة، فعل حضاري وان كان للتسلية وتزجية الوقت، لكن الرواية ليست عملا للتسلية المحضة وان كان ذلك لا يضيرها، فالرواية كأي جنس أدبي تطرقت إلى مجموعة من الأغراض استغلتها الأحزاب السياسية، خصوصا الشيوعية والاشتراكية كأعمال الكاتب جنكيز ايتماتوف، وحين سقطت أفكارها الحزبية لم يبقَ منها سوى جمالها الفني الذي يصلح اليوم للتسلية كروايات صاحبنا الذي نقل سيارتي، أو الأحزاب الرأسمالية كروايات «اين راند» وهي للأسف لا تحمل الجانب الفني الذي يجعلها تستحق أن تكون رواية للتسلية.أهم ميزة للرواية هي بعدها الانساني ونبلها الذي تستمده من معاناة الانسان البسيط، الرواية التي تبحث بعيدا في اعادة صياغة هذه الأبعاد الانسانية. والمثال الأجمل والحي دائما هو تشارلز ديكنز الذي أحدث ثورة في نظام التعليم، حين اهتم بالفقراء وهاجم انتقائية التعليم، فكانت خطبه ومحاضراته تتوافق مع اطروحات رواياته، ولم يكُن منتميا إلى تنظيم معين أو محسوبا على جناح دون آخر، وكان الهجوم الأكبر الذي يتعرض له هو عاطفته المفرطة تجاه الفقراء والمحتاجين.الميزة التي يتمتع بها الروائي العربي، هي تواصله مع روايات من مدارس ومشارب مختلفة، فهو يقرأ لليمين واليسار ويقرأ أعمالا نخبوية مترجمة، لكن هذه الميزة أبعدته عن الانسان كثيرا، أصبح ينظر إلى نفسه وكأنه شخص غير مرتبط بعالمه ومشاكل عالمه، في بلاد تنتشر فيها الأمية وينحدر مستوى الثقافة والتعليم وتنشط تجارة العري الفضائي ويهبط مستوى الغناء وتنحط الموسيقى، ولولا بعض الومضات الخجولة هنا وهناك لوصلنا الى مرحلة اليأس التام ولا يجد الروائي ما يفعله، هذا ان لم يساهم هو شخصيا في هذا الحفل المريب.قبل أن نصل الى قارئ يقرأ في وقت فراغه ليتسلى، علينا أن نصل الى قارئ بحاجة إلينا، قارئ نهتم بتعليمه وثقافته، صناعة هذا القارئ أهم من صناعة الكتاب، ومن يعتقد أن الرواية لا تصنع قارئها فعليه أن يقرأ تاريخ الرواية جيدا.
توابل - مزاج
لماذا نكتب ونقرأ الرواية؟
31-05-2009