ليس أقسى من أن تتمزق بين مدينتين، الأولى تحبها منذ النشأة الأولى، منذ أن قبّلت قدمك الطرية ترابها، منذ أن نصبت الفخ الأول لعصافيرها وطيورها، منذ أن تشيطنت عن قصد خارج طبعك الهادئ كي لا تكون البريء الوحيد في عالم من الشياطين الصغار، منذ أن مرت بقربك أجمل فتاة ترمقك بزاوية عينيها فأسرع قلبك وشلّت قدماك وعرفت أنك الآن أنت، أنت فتى الظهيرة الأبدية. أخذتك الجهراء في عشقها المحموم لتتجسد المدينة في امرأة تحبك وتحتضنك في أجمل مساءاتها، تقص عليك حكاياتها وتقدّمك إلي ذويها، وحين نضج عشقك رفضت الزواج منك. أخذت أجمل أيامك وتركت لك الظهيرة الأبدية. أن ترفض مدينتك الارتباط بك ليس أقل ألما من أن ترفض جميع نساء الأرض الارتباط بك.

Ad

تركت الجهراء في سن متأخرة وارتبطت بمدينة تكبر الجهراء سنا وتفوقها جمالا، أحبتني من دون أن تعرفني جيدا، غفرت لي عشقي الأزلي وقبلت أن تكون زوجة وأن أحب غيرها، ما واجهني في أوتاوا هو شتاؤها الجنوني، صقيعها الأبدي وعاطفتها الميتة، لن أدّعي أنني أحببتها لكني اعتدتها.

مدينة اخترتها من دون أن تعرف تاريخي أو أعرف تفاصيلها، فرضت لغتها ورجالها ولم تلغِ حنيني إلى الجهراء، حاولت جاهدا أن أكون أنا، لكني فشلت بامتياز، حاصرني بياضها الجليدي الطويل، وحين تزهر وتخضر أهجرها متذكرا بيت المتنبي الشهير»أبوكم آدم سن المعاصي وعلمكم مفارقة الجنان».

أعود الى الجهراء التي نمت بعيدا عني وتمددت منازلها شرقا وغربا، كبر أطفالها وأصبحوا رجالا، تغيرت ملامحهم وملامحي فيصعب أن يعرف بعضنا البعض الآخر، أخذ الغبار يعتريها وينحت وجهها الجميل وتقسو ظهيرتها أكثر، لكنها بقيت حبيبة يزيدها تمنعها لهفة ولهفتي اليها جمالا، أشتاق الى لغتها وكتابات صبيتها على أي جدار عارٍ كمن يسجل تاريخا منبتا على حجر.

هناك في أوتاوا شتاء قاسٍ يحاصرك وتنزوي تقرأ في لغة لا تشبهك، مكتبة صغيرة في السرداب وباب صغير لا يطرقه سوى شبحك أنت أو شبح غريب يشبهك، ربما تلك ميزة تتجاهل مكاسبها، عزلة مع قائمة كتب طويلة عليك أن تقرأها، ليس لأنها متعتك التي تحب، لكنها المتعة الوحيدة المتوافرة في مدينة عاصفة تنتابها عواصف الثلج فجأة بين لحظة وأخرى، كتب تنتمي الى عوالم لم تعاصرها مرت من هنا قبل حضورك، ورغم سحرها لا ترى فيها سوى شبح هو ليس أنت.

وهنا في الجهراء ظهيرة طويلة وكتب يهبها الأصدقاء لك بحب، كتب تنتمي إلى عوالمها وتعرفها كمن يقرأ عالمه ويرسمه ثانية كما يريد.

أشعر أحيانا أن الظهيرة غير كافية لكل هذه الكتب فأقرر قراءتها في ذات الوقت، أتنقل بين «مسك» اسماعيل فهد اسماعيل المخطوط ومجموعة سعداء الدعاس ورواية الزميل طالب الرفاعي «الثوب»، وهذا التنقل يمنحني احساسا غريبا بالوجود الحقيقي للشخص الذي أعرفه جيدا وعالمي الذي أحب.

الكتاب هنا هو ليس الكتاب هناك، وتلك ليست مقارنة نوعية بالتأكيد، لكنها مقارنة ذاتية. الكتاب هو القاسم الوحيد بين عالمين متناقضين: دفء الشمس ولهيب الجليد.