المجتمعات تُبنى بتضافر اللونين الأبيض والأزرق، ويصنف الباحثون اللون الأبيض على أنه المجهود الفكري الذي يقدمه المفكرون والدارسون لخدمة المجتمع ورسم المنهج الثقافي والسياسي والاقتصادي للمجتمع. وتعتمد أغلب مؤسسات الدولة على تلك النظريات الفكرية لرسم مستقبلها. هؤلاء الباحثون في الأغلب تستقطبهم مراكز الأبحاث التي تقدم دراساتها لتطوير اداء هذه المؤسسات أو معالجة الخلل فيها. ولا يمكن لمجتمع حديث أن يرسم حاضره أو مستقبله دون الاعتماد على ما يقدمه اللون الأبيض من مجهود فكري يقوم به ذوو الخبرة الفكرية. أما اللون الأزرق فيقصد به الأيدي العاملة الماهرة التي تقوم بتنفيذ ما يرسمه أصحاب اللون الأبيض.

Ad

الصورة التي تؤلمني في وطني هي غياب اللونين الأبيض والأزرق. فلا مراكز للأبحاث متطورة تستقطب الكفاءات المتخصصة، سواء من داخل الوطن أو من خارجه، ولا أيدي عاملة ذات مهارات عالية محلية أو مستوردة. كلما واجهنا مشكلةً ما، صحية أو بيئية، ثقافية أو علمية، أسرعنا نطلب العون الخارجي وقمنا باستيراد كفاءات اللونين الأبيض والأزرق من الخارج. فماذا قدمنا ليومنا العصيب ونحن منذ أكثر من نصف قرن نرسل بعثات علمية إلى الخارج، وننفق المليارات على التعليم العالي؟

الكارثة التي واجهتها الجهراء وكان ضحيتها أكثر من أربعين امرأة من نسائنا ما كان لها أن تحدث لو أننا أولينا اهتماما لثقافة السلامة. واليوم تواجه الجهراء أيضا كارثة صحية، وتوضع ثانوية كاملة تحت الحجر الصحي كما تداولت الصحف قبل أيام، ونحن لا نملك مختبرا واحدا لتحضير الأمصال اللازمة لمكافحة المرض. أما الكارثة البيئية التى يتعرض لها البشر والبحر فهي دليل كبير على غياب اللونين الأبيض والأزرق عن تفكيرنا.

حاجتنا إلى تكريس مبدأ البحث العلمي الحقيقي وإنشاء مراكز حقيقية للبحث العلمي هي السبيل الوحيد للتصدي لما يمكن أن نواجهه من مشاكل والتخلص من مشاكل لم تظهر على السطح بعد. أما اعتمادنا على الآخر، والذي نستدعيه غالبا بعد وقوع الكارثة فليس سوى حل لن يجدي نفعا على المدى الطويل.

لدينا معهد أبحاث منذ زمن طويل ولدينا هيئة للبيئة منذ زمن ليس باليسير، ومشاكلنا العصرية نستورد حلولها من الخارج. لدينا عدد كبير من حملة الشهادات العليا، ومنتهى طموحهم أن يدرّسوا في جامعة الكويت لغياب مراكز بحوث ودراسات يمكن أن توفر لهم المكان الملائم لتطوير قدراتهم والاستفادة من رسائلهم البحثية. لدينا معاهد تطبيقية من المفترض أن توفر للبلد أيدي عاملة ذات قدرات عالية، ولكن الواقع أن كل الأيدي العاملة مستوردة، وليتها ذات كفاءة عالية.

حتى اليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن من التعليم العالي لم نُخرج مفكرا واحدا على المستوى الخليجي، وليس العربي أو العالمي، حتى اليوم لا نجد عالماً حقيقياً له القدرة على إنشاء مركز بحثي متخصص. لا نجد أيدي شبابنا تعمل في حقول كثيرة أصبح العمل فيها نوعاً من العار. ما نجحنا فيه فقط هو تقديم رجال دين لا حصر لهم يحدثوننا عن تراث أجدادنا وماضينا الجميل، أما حاضرنا ومشاكلنا فأصبح الحديث عنها مستحيلاً كمحاولات حلها.