غادرتُ الكويت قبل أيام عائداً إلى كندا، بعد ثلاثة أشهر من التواصل مع الأصدقاء الجميلين وغياب غير مبرر من أحبّة عشت معهم أجمل أيام عمري وسأظل دائما أبحث لهم عن أعذار وأقبلها لكي لا أمنحهم فرصة تشويه تاريخنا معاً.

Ad

أعرف أن الحياة ليست متّسقة ولا تحكمها وتيرة أحادية، وتبدل المشاعر وانقلاب الأصدقاء على الأصدقاء أكثر احتمالاً من دوامها، لكنني أحس بالأسى على علاقاتنا الجميلة حين تتلاشى لأسباب تافهة أو حتى بلا أسباب تافهة.

في كثير من الأحيان يبني المرء علاقاته الاجتماعية بناءً على منصبه الوظيفي أو حالته المادية الميسورة، أو الحالتين معا.

هذا البناء دعائمه قائمة متى ما استمر صاحب المنصب في منصبه، ومتى ما بقي المال متوافراً، حيث سيبقى الأصدقاء ومن يطلبون الصداقة يتوافدون على صاحبهم ويتزاحمون ويتحاسدون ويتباغضون في نيل المكانة الأقرب منه، ويصدّق المرء أن هؤلاء هم أصحابه ومريدوه، وينتفخ أكثر كلما سمع كلمات الإطراء والإعجاب بقدراته الخلاقة وطاقاته المبدعة.

دروس الماضي والحاضر تفيد بأن تلك حقيقة لا يختلف عليها أحد، لكن هذه الدروس تخبرنا أيضا بأن لا أحد يتعلم من هذه الدروس.

في وقت سابق كنا نعتقد أن علاقاتنا الثقافية تحميها الكلمة الصادقة والتبادل المعرفي ولا تخضع لمآرب زائلة، والأصدقاء من حولنا يجتمعون لأهداف الكلمة السامية لا للمناصب العابرة، ونكتشف في وقت متأخر نوعاً ما أننا لسنا كذلك، فالروائي ابن العائلة الغنية هو ليس صديق الروائي ابن العائلة الفقيرة، والشاعر الذي يبحث عن قُوْتِه بشق الأنفس ليس حرياً به أن يصادق الشاعر الذي يلحق به قُوْتُه حتى في منامه.

الأدباء طبقات ليس بمستواهم الفني، لكن بما حققه لهم الإرث الأعمى.

المشكلة الأعمق في هذه العلاقات الإنسانية، هي أن يكون المثقف صاحب منصب ثقافي، فيبدأ علاقاته بمحرر صفحة ثقافية ومصور، تتطور الى ناقد عربي وصحافة عربية ثم الى مترجم ليجعل منه الأديب العالمي بعد أن يترجم له أعمالا لا يقرأها أحد، كل ذلك مقابل دعوة الى مهرجان أو عمل في مؤسسة صاحب هذا المنصب الثقافي.

يفقد صاحب المنصب علاقاته الانسانية أمام مد العلاقات السريعة والعابرة، وفجأة حين يستقيل أو يُقال أول من ينفَضُّ عنه الذين تجمهروا حوله ويبدأ يعيد حساباته ويتصل بأصدقاء كان يصدهم عن مكتبه، وربما يفتح «دكانا» يعالج فيه أصحاب المناصب التي فقدوها وانفضَّ عنهم رواد المكتب والديوانية وتجاهلهم محررو الصفحات الثقافية ونسي أسماءهم النقّاد العرب ومترجموهم، وبالتأكيد، هو الأقدر على فهم التراكمات النفسية لمرحلة ما بعد فقد المنصب الثقافي، بحكم الخبرة لا المعرفة.

أنا أجزم بأن البعض سيقول إنني أقصد فلاناً والبعض الآخر سيشير الى فلانة، لكنني أؤكد للجميع أنني أقصد كل من أشرتم اليهم، أقصدهم جميعا وأذكّرهم بأن مرارة ما بعد المنصب الثقافي، سواء كان في مؤسسة صحافية أو مؤسسة رسمية، هي أقسى كثيرا وكثيرا جدا من حلاوة المنصب وأيامه القليلة، وأعلم أن المثقف لن يتَّعظ ممَّن سبقه وسيبقى يصارع طواحين الهواء من أجل أيام قليلة في منصب زائل لسبب بسيط، هو انعدام ثقته بنفسه وبجدية مشروعه الثقافي، هذا اذا كان يحمل مشروعا ثقافيا فعلاً.