عزلة خلاقة

نشر في 30-08-2009
آخر تحديث 30-08-2009 | 00:00
 ناصر الظفيري لقاء حميم وجميل ضمَّنا أنا والصديقين محمد النبهان وعيسى إدريس، في بيت الشاعر نزيه أبوعفش بمرمريتا، حيث يقيم على مرتفع جبلي يطل على سهول خضراء ويعانق جبال لبنان المطلة عليه من بعيد.

أمام البيت حديقة صغيرة أنيقة وتصاميم فنية من البازلت والرخام الطبيعي. نصب نزيه أمام البيت خيمة بلا رواق، تضم سريرين فى مواجهة وادي بديع من الصمت، حول الشاعر أربعة أصدقاء ليس بينهم من له علاقة بالشعر أو الأدب، الأربعة من مهن مختلفة فأحدهم فني مضخات بترول والآخر صاحب البقالة المجاورة، وهكذا.

عدم اهتمام الأصدقاء بالشعر لم يقف حاجزا أمام اهتمامهم بالشاعر والالتفاف حوله، لتوفير كل ما يحتاج اليه وكأنهم أبناء مطيعون أو مريدون طبعهم الولاء لأستاذهم أو شيخهم.

نزيه أبوعفش شاعر يعيش عزلة اختيارية منذ أربع سنوات، لا يلتقي أحدا ولا يلتقيه أحد بعد تاريخ طويل من الشعر المرير والحزن الخلاق في تجربة فريدة تشكل فيها مفردة الحزن حضورا مهما، ولأنني رجل لا يؤمن بالعزلة الأبدية رغم حاجة الكاتب الى عزلة يبحث فيها عن ذاته ويجدد فيها حاجته الى التأمل، لست هنا لأعترض على اختيار الشاعر انعزاله عن المجتمع الأدبي واقتصار حياته على من حوله فقط، لكنني أفكر بما طرحه الشاعر.

في بداية اللقاء بدأ الشاعر متحفظا جدا، كتوما حتى اعتقدت أن الرحلة الطويلة ستنتهي بعد لحظات من بدايتها، ونحن نفتقر الى مفاتيح الحوار الذي يتجاوز التحيات والترحيب الممل والمكرر.

وحين طرحنا سبب اختيار الشاعر هذه العزلة الأبية، كان منطقيا أن يعترف الشاعر بأن عزلته بدأت بما يشبه الرغبة في الابتعاد عن الناس والاكتفاء بالطبيعة التي تحيط به، لكن الاشاعة سرت بين الآخرين بأن الشاعر يعيش عزلة ولا يود الاختلاط بأحد، وهكذا لم يكلف أي من أصدقائه نفسه بالسؤال عنه أو معرفة أسباب انقطاعه، لم يلتف حول الشاعر أحد من الشعراء الشباب أو رفاق الجيل، وكان نزيه محظوظا بمجموعة أصدقاء يكرسون العزلة ولا يقتحمونها وطبيعة خلابة جاذبة ومساعدة.

أخذنا الحديث المُقتضب في بدايته الى مناحٍ عدة بشأن علاقة الشاعر بالحياة حوله، وأنكرت عليه انقطاعه عن الكتاب والقراءة.

لقد كرس نزيه حياته للموسيقى، ليعيد اكتشاف الحياة من خلال موسيقى فاغنر وباخ وبيتهوفن، لم ينقطع الشاعر عن الشعر فقرأ علينا قصيدته الأخيرة «بيت الموسيقى»، ليعبر عن حالة تبدو غريبة نوعا ما أسماها هو «الإحباط الخلاق».

تدريجيا، مضت الليلة التي أمضيناها مع الشاعر نحو حديث لا ينقطع، أحسست أن الشاعر لم يطلب عزلته ولم يبحث عنها، إنما فرضتها عليه ظروف الحياة.

ربما نجحنا في اخراجه من حالة صمت امتدت سنوات طويلة، ليلة طويلة انتبهت خلالها الى أن الشاعر بعيد عن التلفزيون ولم يرن هاتفه وربما هو لا يمتلك هاتفا، لا أعرف اذا ما كنت أحسد الشاعر على قدرته على النجاح في الهروب من حياة شائكة الى حياة ساكنة وديعة، أو أعارضه في قراره لأن في الحياة ما يستحق خوضها والاستمتاع بآلامها التي لا تنتهي.

back to top