لو أطلقت الشعوب على أيامها أسماء ترمز لأحداثها، لكان يوم الثامن من ديسمبر في الكويت- على مر السنين ودون منازع- هو «يوم الاستجواب».
قاعة عبدالله السالم في ذلك اليوم، ورغم افتقادها جماهيرها، حفلت بمشاهد هي بالتأكيد غير مسبوقة، وهي، بالتأكيد أيضاً، غير متكررة، فللمرة الأولى يقف سمو رئيس مجلس الوزراء على منصة الاستجواب، وللمرة الأولى يتعاقب على المنصة ذاتها ثلاثة شيوخ في الصفوف الأولى من أسرة الحكم، وللمرة الأولى ينظر مجلس الأمة استجوابات أربعة خلال جلسة واحدة، امتدت أكثر من عشرين ساعة، ونكره أن نكرر مقولة النائب السابق عبدالمحسن جمال: «للمرة الأولى يستجوب وزير شيعي»، لأنها مقولة تطلق من الإشارات ما لا نرضاه لصاحبها، وتحمل من التناقضات ما يهدم منطقها، ولأنني على يقين بأن الوزير فاضل صفر لم يستجوب بسبب طائفته، كما أن زملاءه الحاليين والسابقين لم يتحصنوا ضد الاستجواب بالطائفة.واليوم، بعد أن انتهت صفحة «يوم الاستجواب» دون أن تطوى، وبعد أن هدأت النفوس، أو هكذا نأمل، وبعد أن ذهب كل إلى فئته فرحاً بمردود الاستجواب أو متحسراً على تكلفته، نود أن نتأمل مشاهد ذلك اليوم وما سبقه وواكبه من أساليب الحشد والاصطفاف، لنتعرف بكل هدوء وموضوعية، ومن خلال الملاحظات التالية على ما حفل به من إضاءات وعثرات، وما انتهى إليه من نتائج وتبعات:أولاً- بداية، وقبل كل قول آخر، نود الإعراب عن اعتقاد راسخ بأن «يوم الاستجواب» ورغم كل التحفظات ووجاهتها سيبقى صفحة مشرقة في تاريخ الديمقراطية الكويتية، وسيبقى منعطفاً بالغ الأهمية والإيجابية في مسيرتها. ذلك أن وقوف رئيس مجلس الوزراء سمو الشيخ ناصر المحمد على منصة الاستجواب كان بمنزلة تغيير جذري في صورته الشعبية رسخ الأبعاد الإصلاحية والثقافية لفكره وتوجهاته، خصوصا أنه أثبت في وقفته جدارة أثلجت صدور كثيرين وخيّبت ظنون كثيرين، فقد انتصر الشيخ ناصر للديمقراطية الدستورية فنصرته، وأثبت أن التمسك بالدستور والتطبيق السليم لروحه ونصوصه ليس فيه خطوط حمراء، وأن معالجة الأزمات في الأنظمة الديمقراطية لا تكون بالالتفاف على الدستور، بل بالاحتماء به، ولا تكون بالتضييق على الديمقراطية، بل بالاستزادة منها، كما أثبتت وقفة سموه أن التكلفة السياسية والاجتماعية والتنموية لتجاهل بعض مبادئ الدستور ونصوصه أكبر بكثير من تكلفة الاستجابة لروح الدستور ورياح الديمقراطية.ثانياً- نتائج «يوم الاستجواب» برفض اقتراح عدم التعاون مع سمو رئيس مجلس الوزراء، وبرفض سحب الثقة من وزير الداخلية، جاءت مصداقاً واضحاً ونهائياً لما كنا نقوله دائماً من أن الحكم والحكومة يملكان معظم خيوط اللعبة السياسية، ويحظيان بأغلبية نيابية مريحة، إذا ما اتفقت الكلمة وتنظم البيت وخلصت النوايا، وصدقت العزيمة. بل نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فنقول إنه لو توحدت كلمة أسرة الحكم ومواقفها لما مررنا بـ»يوم الاستجواب»، ولما مرت بنا معظم هذه المشاهد غير المسبوقة، وإذا كان صحيحاً ما ذهب إليه رئيس مجلس الأمة حين قال في مقابلة تلفزيونية بُعيد «يوم الاستجواب»: «لو كان سمو رئيس الوزراء قد واجه الاستجواب منذ البداية لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه»، فإن من الصحيح ومن الإنصاف أيضاً القول إن رئيس الوزراء لو ضمن وحدة الصف وصدق المساندة لما تردد في مواجهة الاستجواب منذ البداية.ثالثاً- من التداعيات الرئيسية للحقيقة المشار إليها أن الإصلاح والتنمية هما مسؤولية الحكومة بالمقام الأول، وهما محك كفاءتها ومعيار نجاحها، وقولنا هذا لا ينفي أبداً ضرورة تعاون السلطة التشريعية وأهمية دعمها ومساندتها، ولكنه يعيد إلى الأذهان أن الوصول إلى مثل هذا الدعم والحصول على مثل هذه المساندة، هما بدورهما من مهام الحكم والحكومة. ذلك أن أسلوب تأليف الحكومة، والمعايير التي تحكم اختيار أعضائها، وتحدد حقائبهم، وقدرة الوزراء وشجاعتهم على ممارسة صلاحياتهم وتحمل مسؤولياتهم والمشاركة الفعلية في القرار السياسي لمجلس الوزراء، تمثل بمجموعها شروطا أساسية للثقة الشعبية بالحكومة للمساندة المستحقة لها من نواب الأمة.رابعاً- من حق الحكومة- بل ومن واجبها أيضاً- أن تسعى بكل طريقة دستورية وأخلاقية ممكنة لكي تضمن أغلبية مريحة تساعدها في تمرير تشريعاتها ومشاريعها، كما تساعدها في تجاوز الأزمات والاختناقات السياسية، وللمعارضة- بالطبع- الحق ذاته وبذات الشروط، ولكن بالاتجاه المعاكس، ولئن كنا لا نشكك إطلاقاً في دستورية ومصداقية الأغلبية التي حظيت بها الحكومة في الاستجوابات الأربعة، فإننا وفي الوقت ذاته لا نتردد في القول إن ممارسات حكومية ونيابية ثلاثاً قد جرحت نقاء جهود حشد الأنصار وتأمين الأكثرية:أول هذه الممارسات تمثل في «التخويف» من حل مجلس الأمة إذا جاءت نتيجة الاستجوابات على غير هوى الحكومة، وقد شارك في هذا «التخويف» أو «التهويل» أو التهديد، إن صح التعبير، وزراء ونواب، وركزت عليه صحف وفضائيات، وأوحى معظم هؤلاء أن الحل «الذي يرونه قادماً لا محالة» لن يكون حلاً منسجماً مع نصوص الدستور، ولا ينكر هنا أن هذه الحملة قد آتت بعض أكلها، ولكن لا ينكر- في المقابل- أيضاً أن «يوم الاستجواب» كان من المناسبات القليلة التي ظهر فيها اتفاق غير معلن بين مجلس الوزراء وأغلبية أعضاء مجلس الأمة، وبين رئاستي المجلسين على ضرورة الحيلولة دون حل مجلس الأمة ودون استقالة الوزارة.وثاني الممارسات التي جرحت نقاء ضمان الأغلبية تمثل في اعتماد مبدأ السرية، وإذا كانت «السرية» أداة دستورية وظفتها الحكومة لمصلحتها، فإن عتابنا هنا موجه إلى النواب الذين وافقوا على ذلك. فالسرية انتهاك من هؤلاء النواب لحق ناخبيهم في واحد من أهم أسس الديمقراطية ومن أهم حقوق المواطن وهو الحق في المعرفة والاطلاع.أما الممارسة الثالثة التي تمثلت في عريضة وقعها أكثر من ثلاثين نائباً يعلنون فيها الالتزام المسبق برفض طلب عدم التعاون مع الحكومة، فإننا نعتقد أنها ممارسة لا تخلو من شبهة دستورية، وفيها استباق للأحداث يدل بشكل ما على عدم الثقة بثبات الأكثرية النيابية على موقفها، مثلما ان إعلان عدم التعاون مسبقاً يحمل شبهة أيضاً. وإذا كان من مصلحة الحكومة- ولا نقول من حقها- أن تطلب مثل هذه العريضة، فإننا نعتقد أنه ليس من مصلحة النواب، ولا من حقهم أن يستجيبوا لهذا الطلب. فرفض التعاون أو الموافقة عليه قرار يجب أن يتخذه النائب يوم الجلسة المخصصة لذلك لا قبلها، وفي قاعة عبدالله السالم لا خارجها، وهنا نود أن نوجه تحية احترام وتقدير إلى كل النواب الذين رفضوا مبدأ سرية جلسة الاستجواب، ورفضوا توقيع العريضة المشار إليها، ونخص بالتحية منهم النواب الذين اصروا على رفض السرية والعريضة رغم وقوفهم في صفوف الموالاة.لقد أوحت السرية بعدم ثقة الحكومة بنفسها وعدم ثقة النائب بناخبيه، أما العريضة فقد عبرت بوضوح عن تخوف الحكومة من انفراط أكثريتها.خامسا- أثبتت مشاهد «يوم الاستجواب» وجلستي تأكيد التعاون وتجديد الثقة، أن الموالاة والمعارضة في الكويت مفهومان غامضان متداخلان زئبقيان، الأمر الذي ذهب بالبعض إلى القول إن أحد الاستجوابات على الأقل كان من قبل الموالاة لا على سبيل المعارضة، وإن عدداً من النواب لم يقف في صف «المعارضة» إلا بعد أن تأكد من أغلبية «الموالاة»، كما أثبتت مناورات وتصريحات «الموالين» و»المعارضين».إن وقوف الكثير من النواب في أحد الجانبين إنما يخضع بالدرجة الأولى لانعكاس ذلك على صندوق الانتخاب، وعند هذه الحقيقة بالذات نقف طويلاً، ونفكر ملياً، ونعرب عن قلق عميق وحقيقي ومبرر من أن تكون لنتائج «يوم الاستجواب» ولضمان تماسك «الأغلبية» تكلفة باهظة سياسياً وتنموياً واجتماعياً. ذلك لأن نتائج «يوم الاستجواب» ستبقى بلا جدوى، والأغلبية المساندة للحكومة ستبقى بلا معنى، ما لم تنجح الحكومة في توظيفهما لمصلحة الإصلاح والتنمية وسيادة القانون. وستثبت الجلسات الثلاث التي يعقدها مجلس الامة في الاسبوع الجاري ما إذا كانت الحكومة قادرة على الاستفادة الايجابية من أغلبيتها لمقاربة المشاريع المهمة المطروحة على جدول الأعمال، سواء تعلق الأمر بقانون العمل أو بالقروض أو بهيئة سوق المال أو بموضوع «البدون»، فهي محك للقدرة على اتخاذ المواقف الجريئة وعلى الانجاز في آن.
مقالات
كلمة•: فصل الخطاب حول يوم الاستجواب
22-12-2009