كان ستينيو الأدب في مقاهي الأدب في بغداد يختلفون في المفاضلة بين الوجودييْن "سارتر" و"كامو". من احتلت الماركسية رأسَه ينتصر لسارتر، ومن تفتتت فيه يميل إلى كامو: "إنه مع الإنسان، لا مع الأيديولوجيا." يقول واحدهم، "أنا قرأت كل ما تُرجم عن كامو، ولم أواصل مع سارتر، على أني لا أنكر الأخير. مازالت "الغثيان" تطن في رأسي".

هكذا تمضي جدالاتهم دون توقف. لكننا لم نكن نفهم الاثنين معا. نتعثر في الجمل الغائمة الملتبسة، فتنتقل عثراتها كالزبدة إلى كتاباتنا. وأنا على يقين اليوم أن علة ذاك الفهم الملتبس كامنة في الترجمة المتعجلة الرديئة التي كانت دور النشر تطرحها على موائد شهيتنا للقراءة. الجملة الملتبسة تترك فراغا في الرأس، سرعان ما نملأه باجتهاداتنا الحارة التي تخلو من معرفة، لكنها لم تكن تخلو من حلاوة.

Ad

كنتُ أنتصر لكامو آنذاك. أنتصر له، لأنه ملأ لحظات تأملي الساذجة في مطلع الصبا بمشاعر الروْعِ في مطلع الشباب. في سريري على سطح البيت كنت، شأن كل الصبيان، أصرف دقائق ما قبل النوم بتأمل النجوم، والظلمة التي تحيطها، والمدى الغامض الذي يتواصل وراءها. ولم يكن تأملي حينها إلا حزمة أسئلة حول الكون عصية على الإجابة. أسئلة تتناسل مع بعضها دون توقف. هذا الشاغل لم يترك "كونَ" النهار سائبا دون تساؤلات: السحب، دورة الشمس، زرقة السماء.

لا شك أن تأملات الصبا هذه كانت تتمتع بحلاوة تُقرن بحلاوة الحلم، والوهم والخيال. مع مطلع الشباب، شابت هذه التأملات شائبة الحيرة، وارتعاشة لاشك أن لها صلة بالروع. حتى إني صرت أعتقد أن تسارع أبناء جيلي إلى الانتسابات الحزبية والعقائدية، آنذاك، إنما يحدث بفعل تأثير روع التساؤل الكوني، والرغبة في تجنبه والهرب منه.

اليوم صرتُ أتوهم هذا الهرب، وكأنه الجذر الذي يحرك مشاغل الناس الدنيوية والدينية معا، مهما اتسع تنوعها. لكن من أين لي باليقين، ومدركاتي وليدة العقل القاصر.

تساؤلي الكوني، آنذاك، لم يكن ينفصل عن التساؤل حول طبيعة علاقتي أنا بهذا الكون، ولعل في هذا مصدر الروع. في رواية "الغريب" لكامو مازالت الجملة التالية، التي جاءت على لسان بطلها "ميرسو" تتردد أصداءً: "رفعتُ رأسي أتأمل كتل النجوم في سماء الليل، وتركتُ ذاتي عارية وللمرة الأولى للامبالاة الرائقة للكون". صفةُ "اللامبالاة" هذه هي التي أضافها كامو حينذاك إلى "الكون" الذي أسرني بالتساؤلات. أتذكر هذا بوضوح.

هذا الكون غير المكترث مطلقا لا ينحصر فيما يعلوني من سماوات فقط، بل هو الطبيعة والأشياء اللتان تحيطاني. هو كل هذا الجماد الغافل عن ابن آدم، واللامبالي بمعاناته. وعلى هذا المنوال الخشن دخلتْ مادةُ "الكون" ولا مبالاته في بحران القصيدة المتأملة. أضيفت إلى "لامبالاة" الكون هذه صفة أخرى هي "لامحدوديتُه" التي حجّمت الإنسان وكرتَه الأرضية كذرة لا مرئية، فأضفتْ حالة العزلة الوحشة إلى حالة الروع. ثم جاء إليّ الشعر الإنساني، الذي لم تشغله ترهاتُ الضغائن السياسية، والمنافع الدنيوية المتدنية، ليُضفي على هذه الوحشة وهذا الروع أبعادا إنسانية كنت أحوج ما أكون إليها. جاء أبوالعلاء المعري، فعزز قيمة الإنسان فيَّ، بالتساؤل والحيرة، وجاء شعراء عالميون كثر، مثل أبي العلاء، ليجعلوا منهما سلما للروح النبيل.

أثارت الطبيعة لدى الشاعر ريلكة القلق والتوجس ذاتهما: "نحن بدأنا إدراكنا للطبيعة مع بدء مشاعرنا بأنها كانت غير مبالية تجاه الإنسان، لذا خطا، ولأول مرة، خارجها، وحيدا...".

في كتابه "Native Realm" يسجل ميووش جانبا اعترافيا في موقفه من الطبيعة: "إذا ما كان قانون الطبيعة مجرما، وإذا ما انتصر القوي على الضعيف، وإذا ما تواصل هذا القانون ملايين من السنين، فهل هناك من مجال، بعد، للخير؟ لماذا يتوجب على الإنسان، معلقا على كوكب صغير في الفراغ، ألا يكون أكثر أهمية من الميكروب تحت جهاز الميكروسكوب. يعزل معاناته الخاصة، وكأنها مختلفة عن معاناة الطائر ذي الجناح المهيض، أو الأرنب بين أنياب الثعلب؟ أسئلة كهذه تُغرقني، أحيانا، لأسابيع في حالة مقاربة للمرض الجسدي".