عودة إلى بدء

Ad

تناولت في مقالي الأحد الماضي التعليق على الحكم الصادر في مصر بحبس نقيب الصحافيين وسكرتير عام النقابة ورئيس لجنة الحريات فيها لمدة سنتين، ونفيت عنهم عنصري الركن المادي في جريمة الإيواء والإخفاء، لأن مقر النقابة هو بيت كل الصحافيين، وليس للنقيب سلطة على هذا المقر تمنحه الحق في منع دخول أي صحافي إلى مبنى النقابة أو في منع اعتصامه بمقرها، لأن التنظيم النقابي ينضوي تحته كل الآراء والتوجهات وكل فئات المجتمع وأطيافه وألوانه، بما ينفى عن النقيب وزميليه عنصر الإيواء، كما ينتفي عنه كذلك عنصر الإخفاء، وقد كان من بين الأسباب التي بنى الحكم عليها إدانتهم أن إعلانا نشر من المعتصمين على الموقع إلكتروني للنقابة بعزم المعتصمين على الاعتصام بمبنى النقابة، كما نفينا عن النقيب إرادة الفعل، أي القصد الجنائي في معاونة المتهمين على الفرار، وقد أثبت الحكم في حيثياته اتصال النقيب بالمسؤول في الأمن الوطني للاستفسار منه عن صدور أمر قضائي بضبط وإحضار المتهمين المعتصمين بالنقابة، فقد كان معلوما للكافة وللسلطة هذا الأمر جميعه، وقد قامت هذه السلطة بالقبض عليهما بمقر النقابة.

تفريد المشرع للعقوبة

ومن المبادئ الأساسية في شرعية التجريم والعقاب، تفريد العقوبة، بأن يحدد المشرع لكل جريمة ما يناسبها من عقوبة بحسب جسامتها، وأن يكون تفريد العقوبة في الجريمة الواحدة، بين الحبس أو الغرامة ، وفي داخل كل عقوبة منهما بين حدين أدنى وأقصى تاركا تقدير ذلك للقضاء، وهو ما فعله المشرع في قانون العقوبات في المادة 144 التي دين بها المتهمون، إذ فرقت بين إخفاء من كان محكوما عليه، وبين من لم يكن كذلك، بأن كان لا يزال موضع اتهام.

فقررت هذه المادة لجريمة الإخفاء عقوبة الحبس من ثلاث إلى سبع سنوات إذا كان الفار محكوما عليه بالإعدام، أما إذا كان متهما بجريمة عقوبتها الإعدام، فتكون عقوبة جريمة الإخفاء الحبس الذي لا تجاوز مدته ثلاث سنوات.

وتعتبر هذه التفرقة تجسيدا للمبدأ الدستوري الذي يقضي بافتراض البراءة في الإنسان حتى تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي، وهو المبدأ الذي جسدته المادة (77) من دستور مصر في ما تنص عليه من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع.

وهي مادة تستمد حكمها من مبادئ الشريعة الإسلامية، حيث تقوم قاعدة "الأصل براءة الذمَة" ويتفرع عنها فكرة أن البراءة في الجرائم هي الأصل في الإنسان حتى تثبت إدانته.

وأصل هذه القاعدة الفرعية ما ورد في السنة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات".

وهو مبدأ يستمد حكمه كذلك من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ردد قاعدة استقر عليها العمل في الدول الديمقراطية، وتقع في إطارها الضمانات الأساسية التي يتكامل بها مفهوم العدالة.

وفي تفريده المادة 144 لعقوبة الإخفاء والإيواء، يحسب جسامة جريمة الفار، قررت لجريمة الإخفاء عقوبة السجن من ثلاث سنوات إلى سبع إذا كان الفار محكوما عليه بالإعدام، وعقوبة الحبس إذا كان محكوما عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.

تفريد القاضي للعقوبة

أما في الأحوال الأخرى فقررت المادة 144 من قانون العقوبات لجريمة الإخفاء والإيواء عقوبة الحبس الذي لا تجاوز مدته سنتين لتترك للقاضي تفريد العقوبة، وفقا لاختلاف ظروف ارتكاب الجريمة ونبل الدافع أو سوء المقصد من ارتكابها.

وهو تفريد يستخدمه القاضي متأثرا بالعوامل الموضوعية المتعلقة بالجريمة ذاتها، وبالعوامل الشخصية التي تعود إلى مرتكبها.

وهو النص الذي طبقته المحكمة على المتهمين، وقد أرست المحكمة الدستورية العليا في مصر في هذا السياق المبادئ الدستورية التالية:

أ- إن تقدير العقوبة من خلال تفريدها يتعلق بعوامل موضوعية تتصل بالجريمة في ذاتها، وبعناصر شخصية تعود إلى مرتكبها بما مؤداه قيام علاقة حتمية بين سلطة القاضي في تفريد العقوبة، وتناسبها مع الجريمة وارتباطهما معا بمباشرة الوظيفة القضائية اتصالا بجوهر خصائصها.

ب- إن المتهمين لا تتجانس خصاص تكوينهم ولا تتحد بنيتهم، بل يتمايزون على الأخص من حيث تعليمهم وثقافتهم، وقدر ذكائهم واستقلالهم، وتدرج نزعتهم الإجرامية بين لينها أو اعتدالها أو غلوها أو إيغالها.

ج- إنه يستحيل معاملة المتهمين بوصفهم نمطا ثابتا، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في قالبها، وأن عقوبتهم لا يجوز أن تكون واحدة لا تغاير فيها.

د- إن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية مناطها أن يباشر كل قاض سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديرا لها، في الحدود المقررة قانونا، فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبرا لآثار الجريمة من منظور موضوعي يتعلق بها وبمرتكبيها.

حكم المحكمة الدستورية العليا بجلسة 3 أغسطس سنة 1996 في القضية رقم 37 لسنة 15 قضائية دستورية– الجريدة الرسمية– العدد 32 في 15/ 8/ 1996.

وحكم المحكمة الدستورية العليا 9 مايو سنة 1998 في القضية رقم 64 لسنة 19 قضائية دستورية– الجريدة الرسمية– العدد 21 في 21/ 5 /1998.

وللحديث بقيه إن كان في العمر بقية، حول توقيع الحكم أقصى عقوبة على المتهمين دون اعتبار للعناصر والظروف والملابسات التي لابست وعاصرت هذه القضية من أساسها، وحول تطبيق الحكم لقرينة قضائية، افترض فيها الحكم المسؤولية الجنائية للنقيب عن إخفاء وإيواء المتهمين.