في اعتقادي أن مصر ما زالت قادرة على مفاجأة علماء الاجتماع والسياسة، خصوصاً في ما يتعلق بقدرتها على إفراز ممارسات اتصالية تتسم بالغرابة والحدة والإفراط في مقاربة الشأن العام، عبر وسائط الإعلام، بما ينعكس مباشرة على توجهات الرأي العام ودرجة التركيز والرشد التي يتحلى بها.

ثمة خمس ظواهر تميز المجال الاتصالي المصري الراهن، تنعكس بوضوح في ممارسات نوعية، وتؤدي إلى تغيرات جوهرية في الرأي العام، وتحرفه أحياناً، بما يضر السياسات العامة، وينعكس سلباً على حالة الاستقرار، والقدرة على التفكير البناء، وصيانة الوحدة الوطنية والسلم الأهلي.

Ad

الظاهرة الأولى هي "الميدياقراطيا" Mediacracy، التي يعرّفها بعض الباحثين والمحللين بأنها "حكم الميديا ووسائلها"، أو هي "الحكم غير المباشر بوسائل الإعلام الشعبية، بسبب اضطراب يعتري الديمقراطية. وهي نظام يتوقف فيه الساسة عن التفكير، ويكتفون بمتابعة وسائل الإعلام في ما يتعلق بتحديد ماهية القضايا الكبرى، وما الذي يتوجب عليهم فعله بشأنها".

خلال حكم "الميدياقراطيا"، لا يهتم الساسة بحل المشكلات على الأرض، ولا بالتخطيط ووضع الاستراتيجيات، ولا بالسهر على إنفاذ القانون، لكنهم يهتمون فقط بصورتهم عبر وسائل الإعلام، ولأن بعض وسائط الحكم وسلطاته ومؤسساته، تكون مهترئة أو غائبة أو فاقدة للفاعلية؛ فإن "سلطة الإعلام" تبرز وتتسيد المشهد تماماً، حتى تتغول على غيرها من السلطات وتفتئت على أدوارها.

يقود هذا الخطأ إلى احتلال الإعلام مكانة "السلطة العابرة للسلطات"، أو "السلطة فوق السلطات"، بدلاً من موقعها المأمول كـ"سلطة رابعة"، أو كـ"رقيب للناس على الحكم والأداء العام".

وحين يصبح الإعلام سلطة في حد ذاته، أو أداة الحكم الرئيسة التي تحكم بها السلطة، يتم تفريغ المؤسسات من أدوارها، ويعيش الجمهور عالماً زائفاً مصطنعاً يأتي عبر الصور والكلمات، ثم لا يلبث أن ينتفض هذا الجمهور أو يثور حين يعلم أنه كان "ضحية خداع الميديا وصورها الكاذبة".

أما الظاهرة الثانية التي تهيمن على المجال الاتصالي المصري فهي ظاهرة "أولتراس السوشيال ميديا"؛ فلأسباب كثيرة، تتحول وسائط "السوشيال ميديا" من كونها ساحة للتواصل الاجتماعي، ومنصة لاستيعاب النقاش العام، وبلورته وتطويره، إلى مجال للصراع، أشبه بهذا الذي تشهده منافسات الأندية الكروية، عبر جماعات "الأولتراس" المشجعة لها. وكما "الأولتراس" تماماً، يتحول قطاع معتبر من المتفاعلين على وسائط التواصل الاجتماعي إلى "أصحاب حقيقة مطلقة"، ويتمترسون وراء "قناعات لا يمكن دحضها"، ويخونون الآخرين، أو يستبيحون كرامتهم، أو يحطون منها.

لا يمكن أن تخدم جماعات "الأولتراس" كرة القدم كما يخدمها المشجعون المنتمون المخلصون، الذين لا يخلطون بين العصبية والانتماء، ولا يعتبرون أن مشجعي الفرق الأخرى أعداء لهم، ولا يستخدمون السباب واللغة البذيئة، ولا يحرضون على العنف بحق منافسيهم.

وكذلك، لا يمكن أن يخدم المستخدمون المتعصبون القضايا العامة عبر نقاشاتهم الحادة ولغتهم البذيئة وانحيازاتهم المطلقة وفكرهم المتجمد وغير الموضوعي.

أما ثالث الظواهر التي باتت تهيمن على المجال الاتصالي المصري وتحرف نتائجه عن الموضوعية والرشد المأمولين فليس سوى ظاهرة "الألش"، التي ابتدعها المصريون وأفرطوا في ممارستها خصوصاً على وسائط التواصل الاجتماعي.

و"الألش" هو المقاربة المجتزأة الحريفة الحادة لموضوع ما، عبر التركيز على أحد جوانبه الهامشية، واختزاله فيه، وتكثيف النقد إزاءه، من خلال تسليط الضوء على عوار مفترض به.

لقد كانت عبارة "الراجل اللي ورا عمر سليمان" مثالاً لـ"الألش"، في مقاربة تطور تاريخي مهم مثل إزاحة مبارك من حكم مصر، لكن تلك العبارة لم تنته ولم يزل أثرها فعالاً ومنعكساً في عشرات المقاربات كل يوم تقريباً.

يفرط كثير من الشباب والشابات المتفاعلين على وسائط التواصل الاجتماعي في تعميق ظاهرة "الألش"، عبر تحويلها إلى نمط ثابت في التفاعل مع الشأن العام، وبالتالي يتم حرف التفكير عن مساره الموضوعي المفترض، واستبدال مسار آخر ساخر وعدمي به، والنتيجة تكون عادة: المزيد من المرارة والإحباط... أو لا شيء.

الظاهرة الرابعة التي تميز المجال الاتصالي المصري تكمن في نمط "التوك شو" الوطني، الذي تطور وتكرس، حتى إنه انتقل إلى بعض البلدان العربية.

في نمط "التوك شو" المصري يعد المذيع فيلسوفاً أو قائداً ملهماً أو معلماً وواعظاً، وهو لا يخضع لأي توجيه من طاقم العمل، ولا يلتزم بموضوع أو وقت خلال حصته الإعلامية، والأهم من هذا أن إرادته ورؤيته، أو أصحاب المصالح الذين يحركونه، هم فقط من يتحكم في الموضوعات التي يتناولها والآراء التي يدلي بها، والتي يمكن أن تكون غير منطقية أو هزلية، كما يمكن أن تتغير بين ليلة وضحاها، أو خلال الحلقة التي يقدمها نفسها.

الظاهرة الخامسة التي باتت تؤطر الأداء الاتصالي المصري طارئة وغريبة، وهي ذات صلة مباشرة بالتطورات المهمة التي جرت في أعقاب انتفاضتي يناير 2011، ويونيو 2013؛ إذ بات إطار الصناعة يضيق، بدخول كيانات رسمية كبيرة للاستثمار في صناعة الإعلام بشكل مباشر.

لقد تزامن دخول الكيانات الكبيرة هذا المجال مع انحسار الصناعة، بسبب الخسائر المالية الكبيرة، وخروج المال السياسي الذي أتى معظمه من دول خليجية، وبالتالي فقد تقلصت مساحات التعدد والتنوع بدرجة كبيرة. لا يمكن ضمان بنية اتصالية فعالة وإيجابية من دون درجة معقولة من الحرية والتنوع والتعدد، ولا يمكن أن يتم تأطير الرأي العام أو السيطرة عليه في ظل المشهد الاتصالي الراهن من أي سلطة، ومع ذلك فإن بعض الرشد في الممارسة قد يعزز قدرتنا على الاستخدام الإيجابي لتلك الوسائط.

يجب ألا ندير الدولة عبر وسائل الإعلام، ويجب ألا نتصرف كـ"أولتراس" على "السوشيال ميديا"، كما ينبغي ألا نستهلك طاقاتنا كلها في "الألش"، إذا أردنا أن نكون رأياً عاماً رشيداً ومستنيراً، وعلى المذيعين أن يصبحوا صحافيين فقط، لا قادة ولا فلاسفة، وعلى الدولة أن تضمن التنوع والتعدد في المجال الإعلامي.

* كاتب مصري