الحرب النووية لم تعُد «مستحيلة» بالنسبة إلى روسيا
يحتوي "مفهوم السياسة الخارجية" الذي نشرته أخيراً روسيا الفدرالية على بعض التغييرات والتحديثات المثيرة للاهتمام، وبما أن هذا المستند يعكس طريقة تفكير الكرملين الاستراتيجية ونظرته إلى العلاقات الدولية، فمن المهم أخذ ما يذكره على محمل الجد.قد لا يكون واقع أن الاستراتيجية كانت تُحضَّر بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية الأميركية مجرد مصادفة بالنظر إلى اثنين من أبرز أوجهها: الأول تبدل بسيط إنما مهم في تقييم إمكان استخدام الأسلحة النووية من "مستحيل" إلى "غير مرجَّح". صحيح أن هذا المفهوم لا يشير إلى ارتفاع احتمال حدوث تبادل نووي، إلا أنه يحذر من تنامي خطر تفاقم الأزمات بين دولتين تملكان أسلحة نووية. أما الثاني، فهو عرض صريح وواضح للمبادئ الويستفالية التقليدية عن كيفية تعاطي الدول مع بعضها في النظام الدولي: على أساس "عدم التدخل المطلق في شؤون إحداها الأخرى الداخلية". وإذا لم ترغب أي دولة في اعتماد هذا المبدأ في علاقاتها مع روسيا، تحتفظ موسكو بحق اللجوء إلى تدابير ردّ قاسية على أي عمل تعتبره معادياً.ربما كانت وزارة الخارجية الروسية تتوقع أن تفوز هيلاري كلينتون بالرئاسة الأميركية، فقد بدا هذان الوجهان مصممين خصوصاً لتوجيه رسالة واضحة إلى واشنطن مفادها أن موسكو لن ترضى بأي تدخل في شؤونها الداخلية يستند إلى مزاعم أميركية عن إخفاقات في الممارسات الديمقراطية أو الالتزام بحقوق الإنسان. فقد تعلّمت روسيا درساً من هفوتها المؤقتة عام 2011، حين دفعت الدعوات المطالِبة باللجوء إلى مبدأ "مسؤولية الحماية" الإنساني روسيا إلى الامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن في الأمم المتحدة الذي يسمح بإقامة مناطق آمنة للثوار الليبيين. موسكو عاقدة العزم اليوم على عدم تكرار هذا الخطأ في المستقبل، وخصوصاً إن كانت هذه السلطة لن تُستخدم لإرسال قوات لحراسة مخيمات اللاجئين، بل للمشاركة في عمليات عسكرية ناشطة ضد حكومة مسيئة. علاوة على ذلك، يعكس هذا تناميَ رفض روسيا القبول بادعاءات الغرب عن أن عملية القمع الداخلية التي تعتمدها الحكومة تسعى للحفاظ على سلطتها تُعتبر تلقائياً تهديداً للسلام والاستقرار الإقليميين وتبرر العمل الدولي. وهكذا أشارت روسيا لنفسها وللأنظمة الأخرى إلى أنها تدعم المبدأ الذي يعطي الحكومة حق اتخاذ الخطوات للدفاع عن نفسها في وجه أي مخاطر تهدد حكمها، الداخلية منها والخارجية، وإلى أنها ترغب في رفع كلفة تغيير الأنظمة التي يدعمها الغرب، كلما تسنت له الفرصة.
بالإضافة إلى ذلك، يعكس تغيير تقييم الحرب النووية إجماع الخبراء المتنامي على أن هذا الخطر يتفاقم بالفعل. إلا أن هذه الخطوة تنسجم أيضاً مع النمط الذي يعتمده بوتين في تحذير الولايات المتحدة ودفعها إلى التراجع. فبعد ضم القرم عام 2014، استخدم بوتين صورة مجازية عن الربيع ليلمّح إلى أن الضغط الغربي المستمر والملحّ على حدود روسيا أدى أخيراً إلى ردّ فعل. حتى لو كان التبادل النووي "غير مرجّح"، تشير روسيا إلى أنه لا يعود مستحيلاً، إن استمرت العلاقات بين روسيا والغرب بالتراجع.من المثير للاهتمام أن ننتظر لنرى ما إذا كانت الإدارة الأميركية الجديدة ستتنبه لهذه الإشارات ضمن إطار مراجعتها الخاصة للعلاقات الأميركية-الروسية. قد يلقى التراجع أو التوصل إلى تسوية في عدد من المقاربات السياسية الماضية، التي حظيت بتأييد الحزبين (وخصوصاً مواصلة توسع حلف شمال الأطلسي)، بغية تخفيف الضغط عن "الربيع" أصداء إيجابية لدى الرئيس الجديد. لكن تركيز العلاقة على المسائل الأمنية "الأساسية" (بدءاً من تفادي صراع نووي) بدل تقدّم روسيا في عملية تبني الديمقراطية يعيد السياسة الأميركية إلى ما قبل التقييم التقليدي والمتحفظ عام 1991 الذي وجّه السياسة الأميركية منذ ذلك الحين، والذي يعتبر أن طريقة حكم روسيا داخلياً تشكل مسألة أمن وطني حيوية تهم الولايات المتحدة.* نيكولاس غفوسديف | Nikolas Gvosdev