د. الدويش... وقبور الصبية الأثرية (2- 4)

نشر في 12-12-2016
آخر تحديث 12-12-2016 | 00:07
يقول د. سلطان الدويش إن ترتيب المقابر في الصبية جرى «على أساس أشكالها أو هندستها أو على أساس التعاقب الزمني الحضاري مع اعتبار التفاعل بين الأقوام عرقا وحضارة، ذلك أن الامتزاج والانصهار كانا على مختلف المستويات».
 خليل علي حيدر غطت أعمال المسح للمنطقة الأثرية في الصبية، التي قام بها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مناطق شمال منطقة "أمديرة" شمالي محمية الشيخ صباح الأحمد الطبيعية، حيث جرى رصد 25 من تلال المقابر الدائرية الشكل والبيضاوية.

ويقول د. سلطان الدويش "إن من بين القبور نحو 8 لها أهمية، من بينها قبر ربما يكون مقابر أطفال تتشكل من مجموعة من الأحجار المتفرقة، والمقبرة بيضاوية الشكل لها ارتفاع بسيط عن سطح الأرض، وتبلغ مقاساتها 160 سم طولا و120 سم عرضا بارتفاع 30 سم تقريبا، وقد تم رصد نحو ألف مدفن في منطقة الصبية منتشرة بين تلال جبل الزور وساحل جون الكويت، وقد جرى التنقيب في 87 مدفنا".

وجرى ترتيب المقابر في منطقة الصبية "على أساس أشكالها أو هندستها أو على أساس التعاقب الزمني الحضاري مع اعتبار التفاعل بين الأقوام عرقا وحضارة، ذلك أن الامتزاج والانصهار كانا على مختلف المستويات". ويضيف الباحث: "وقد تأثر سكان أرض الصبية بالمنطقة المحيطة بهم في الجزيرة العربية وبلاد النهرين". وفي بعض المناطق كانت القبور تبنى من مجموعة من الأحجار، وبعد وضع الجثة كان القبر يغطى بقطعة حجر تغلقه كلياً. وقد وجدت غالبية القبور، كما يقول الباحث معاوية إبراهيم "وقد نزع عنها غطاء السقف". إذ كانت أهم المشاكل هي تعرض المقابر للسرقة.

تم تقسيم منطقة شمال دولة الكويت إلى قسمين: الصبية وكاظمة، واستخدمت مسميات متعارف عليها مثل الردحة، النهدين، بحرة، اطبيج وغيرها.

وكانت المكتشفات قليلة في بداية أعمال الاستكشاف الأثري إلا أنها زادت مع استمرار التنقيب، حيث عثر في إحدى المقابر على 600 قطعة من الخرز والحلي.

ويصنف الكتاب أنواع المقابر الأثرية في منطقة الصبية التي جرى تقسيمها بحسب أشكالها الخارجية إلى أشكال منها الشكل الدائري والبيضاوي والمقبب وغيرها، ولكن لمن تعود هذه المقابر؟ وإذا كانت للسكان المحليين هل كان لهم استيطان مؤقت أم دائم؟

ويقول د. الدويش، نعتقد أن سكان الصبية من الرعاة، حيث كشفت معاول التنقيب أن هذه الأرض مسكونة منذ العصور الحجرية، مع احتمال زيادة كثافة الاستيطان منذ الألف الخامسة قبل الميلاد في "حضارة العبيد"، نعتقد أن سكان الصبية هؤلاء "لم يكن لديهم غير القليل من الممتلكات، وسيكون من الصعب العثور على مستوطناتهم، إذ إن بيوتهم ربما لم تبن من مواد صلبة، وربما يدخل في بنائها سعف النخل أو مواد نباتية. ونحن نعرف من موقع يرجع للعصر الحجري في الصبية أن أشجار النخيل كانت تنمو في هذه المنطقة، لأنه قد تم العثور على نوى التمر في هذا المكان".

ولكن ألا يمكن أن تكون تجمعات سكانية أكبر، من مكان مجاور، على علاقة بهذه المقابر، ربما جنوب جون الكويت أو جنوب العراق أو أي مكان آخر؟ وما علاقة طقوس الدفن لديهم وشكل المقابر والقبور بالحضارات المجاورة؟

ويلاحظ د. الدويش أن هذه المقابر من جانب آخر "تقع على طرق التجارة القديمة بين بلاد الرافدين والجزيرة العربية وعلى رأس الخليج العربي، فهي تتحكم في خطوط الملاحة البرية والبحرية وعلى هذه الطرق بنيت المستوطنات والمقابر، ويدعمها وجود آبار المياه التي تمتد بالقرب من سواحل خليج الكويت- أي الجون- وربما جزء من هذه المقابر يعود إلى التجار الذين كانوا ينقلون البضائع بين مدن بلاد الرافدين والمراكز الحضارية في شرق الجزيرة العربية".

ويتناول الباحث أسباب اختلاف أشكال القبور، فيقول إن لذلك عدة أسباب، منها أنها تعود إلى عصور مختلفة، وتمثل طبقات متفاوتة من المجتمع، كما أن بعضها مخصص لإقامة شعائر عقائدية غير الدفن مثل المزارات الدينية.

ويتساءل د. الدويش عما إذا كان اتجاه القبور وأماكن انتشارها يحمل أي دلالة، وهو يلاحظ أن "اتجاه القبور دائما إلى الشرق، وأحيانا إلى شمال شرق، وجنوب شرق، وهذا يفسر ربما بطلوع الشمس في فصل الشتاء وفصل الصيف من أماكن مختلفة، أما أماكن انتشارها فهي في رؤوس قمم التلال، ونعتقد أن وجودها في أماكن عالية دليل على الرفعة وعلو المكانة، وكذلك للمحافظة على هذه القبور من مياه الأمطار، وربما كانت في الأعلى إمعانا في التمويه على المارة بما يوحي أنها رجوم صخرية أي علامات للطرق".

(مقابر مدينة الصبية، ص81).

ويشير د. الدويش إلى العلاقة بين سكان الصبية آنذاك وجزيرة فيلكا، واحتمال السكن فيها أو الزراعة، وبخاصة أن المسافة بين المكانين نحو 13 كيلومتراً ويقول: "حتى الآن ليست هناك علاقة مباشرة بين الصبية وفيلكا- ويقصد ما يمكن إثباته بالمكتشفات الأثرية- ورغم أن فيلكا كانت مأهولة منذ منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، لا توجد فيها قبور سوى أعداد قليلة لا تتحاوز أصابع اليد الواحدة خلاف الصبية التي وجدت فيها ألف مقبرة حتى الآن تم رصدها". وربما يقصد الباحث ألف قبر؟

لم تسلم قبور الصبية من السرقة والتلف، ويقول الباحث إن "جميع المقابر التي جرى بها التنقيب قد تعرضت للنهب والتخريب، حتى المقابر التي جرى مسحها وجدت بها فتحة في الوسط وهذا دليل على تعرضها للسرقة".

ويعتقد د. الدويش "أن تعرض المقابر للسرقة بهذا الشكل الشامل دليل على غنى هذه المقابر ومعرفة اللصوص بما فيها من كنوز".

ولوحظ كذلك عدم وجود عظام في المقابر! ويرى الباحث أن ذلك قد يعود لسببين: "إما أن تكون-المقابر- في طور الإعداد والتجهيز، أو تكون قد تعرضت للسرقة أو إتلاف للعظام أو أن العظام تحللت، خاصة الهياكل البشرية التي تعود لأطفال وصغيري السن".

ونضيف لهذه الأسباب الوجيهة احتمالين آخرين أحدهما قيام بعض الحيوانات المفترسة بأكلها أو ربما استخراجها من البعض لأغراض دينية أو لأعمال السحر أو بعض الطقوس، وربما نقلها لأماكن أخرى للأغراض نفسها، وربما لندرة الأحجار في المنطقة وبخاصة إن كانت من حجم مناسب للبناء أو الاستخدامات الأخرى ومن ملاحظات الباحث على المقابر عدم وجود مستوطنات على مقربة منها، ذات علاقة بها، أي تعود إلى الألف الرابعة أو العصر البرونزي في الصبية، فجميع المستوطنات التي عثر عليها ترجع إلى حضارة العبيد أو الحضارة الإسلامية. ويرى الباحث "مايكل رايس" كما يورد د. الدويش، أن منطقة شمال الكويت لابد أنها كانت مسكونة خلال العصر البرونزي، لكن الساحل قد غطاه الطمي أثناء حركات المد والجزر".

والمعروف أن تراكم طمي شط العرب في الخليج العربي وبخاصة في المناطق الشمالية الغربية ظاهرة معروفة.

ويدرس د. محمود طه أبو العلا في ورقة ألقيت برابطة الاجتماعيين عام 1974 "خصائص البيئة الجغرافية لحوض الخليج العربي"، ويلاحظ د. أبو العلا أن المسطح المائي الخليجي يزداد عمقه من الشمال إلى الجنوب ويقول:

"يبلغ أقصى عمقه جنوب مضيق هرمز أمام ميناء مسقط، وأعماقه كما يلي في المحور الأوسط من السطح المائي:

- العمق عند رأس الخليج في أقصى الشمال: 10 قامات

- جنوب ميناء الكويت: 20 قامة

- العمق عند مضيق هرمز: 50 قامة

- العمق عند مسقط: 1800 قامة

كما أن ملوحة مياه الخيلج العربي في قسمها الشمالي أقل منها في قسمها الجنوبي، أي جنوب مضيق هرمز"

ويضيف د. أبو العلا أن هذا النطاق الضحل في المنطقة الخليجية قد "أوجد الشعب المرجانية وما عليها من رواسب رملية وطينية تساعد على نمو محار اللؤلؤ".

(الورقة منشورة في كتاب رابطة الاجتماعيين لمحاضرات 1974-1975. بعنوان: الخليج العربي في مواجهة التحديات، الكويت 1975، ص87).

مع استمرار التنقيب عثر في إحدى المقابر على 600 قطعة من الخرز والحلي
back to top