حتى بعد حرب الأعوام الثمانية العراقية – الإيرانية، التي هي باستثناء الاستثناءات المعروفة حرب عربية – إيرانية، فقد كان بالإمكان فتح صفحة جديدة مع إيران التي من المفترض أنها دولة ليست صديقة فقط، بل شقيقة، وعلى أساس أن ما يجمع العرب بها أكثر كثيراً مما يفرق، وأن التمازج الثقافي والحضاري بين هاتين الأمتين العريقتين في إطار الإسلام العظيم من المفترض أن يصمد أمام "عاديات الزمن"، وأن يكون الأرضية الصلبة لحل بعض الخلافات والمشاكل الطارئة، انطلاقاً من أنه حتى العائلة الواحدة لا بد من أن تواجه، ليس في بعض الأحيان فقط، بل في الكثير منها، بعض "الإشكالات" التي يتم حلها بالتفاهم والتنازلات المتبادلة.

إن هذا هو المفترض، ولكن بما أنَّه ليس كل مفترض بالإمكان أن يصبح واقعاً يحكم علاقات أمتين عريقتين كان ولا يزال قدرهما أن تكونا متجاورتين وأن تكون الحدود الجغرافية، بحرية وبرية، بينهما متداخلة، فإنه لا يجوز ترك الأمور تسير في هذه الاتجاهات الخطيرة التي تسير فيها الآن، والتي إنْ هي تُركت لأمزجة المتطرفين، الذين بادروا إلى التطلع إلى ما خلف حدود بلدهم مع الجوار العربي فور انتصار الثورة الإيرانية في فبراير عام 1979، وأيضاً لألاعيب الدول الكبرى التي لا تزال لها أطماع كثيرة في هذه المنطقة التي رغم قناعات الرئيس الأميركي (الراحل) باراك أوباما لا تزال منطقة مصالح حيوية، ليس للغرب وحده، بل أيضاً للعالم بأسره... فإن علينا أن ندرك أن مسارعة روسيا للتدخل "الاحتلالي" في الأزمة السورية لم تكن لا حباً في بشار الأسد ولا حرصاً على نظامه، ولكن خدمة للمصالح الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط كلِّه.

Ad

والحقيقة، وهذه الحقيقة يجب أن تقال الآن، أن حرب الأعوام الثمانية قد كانت من جانب العراق حرباً دفاعية، فالثورة الإيرانية المنتصرة بادرت -فور عودة الإمام الخميني من فرنسا بطائرة فرنسية، وفور أن وطئت أقدامه أرض مطار "مهرآباد"- إلى رفع راية عبور الحدود في اتجاه الغرب، بحجة أنّ هناك مراقد أئمة ومقامات مقدسة، وذلك مع أن هذه المقامات وهذه المراقد يجب أن تجمع ولا تفرق، وذلك على اعتبار أنها للمسلمين كلهم، وأنّ تعلُّق أهل السنة بها لا يقل، بل ربما يزيد، عن تعلق الشيعة... هذا على اعتبار أن كل المسلمين "يتشيعون" لآل البيت الأطهار ويقدرونهم ويحترمون مكانتهم وأدوارهم في المسيرة الإسلامية.

في كل الأحوال، لقد كان بالإمكان أن تكون هناك وقفة جادة من كلا الطرفين بعد حرب الأعوام الثمانية المكلفة والمدمرة، وكان بالإمكان أن تصبح الحدود المشتركة أبواباً للتواصل واستعادة العلاقات التاريخية التي حققت إنجازات حضارية عظيمة للبشرية كلها ونوافذ للتبادل التجاري، لكن هذا للأسف لم يحدث، بل إن "إخوتنا" قد وقعوا في الشرك الأميركي عندما اندفعوا بكل قواهم العسكرية و"الميليشياوية" لملءِ الفراغ الذي ترتب على إلغاء الدولة العراقية كدولة، وهدم مؤسساتها، وحل جيشها وأجهزتها الأمنية، الأمر الذي ترتبت عليه كل هذه المآسي التي نراها الآن.

وهكذا، ولعل الأخطر أن "إخوتنا" الإيرانيين قد انقادوا لـ"الاستدراج" الأميركي، وبدل أن يكتفوا من الغنيمة بالإياب ويتركوا العراق لأهله ويعودوا لبلادهم سالمين غانمين ذهبوا بعيداً في الانقياد لهذا الاستدراج بتورطهم بالتدخل العسكري و"الميليشياوي" في سورية، كل هذا وهم يعرفون أنَّ المقصود هو وضعهم على منصة الإعدام، وهنا فإن على عقلائهم أن يدركوا معنى نوايا الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب وتهديداته بإلغاء اتفاقية النووي التي كانت أبرمت مع باراك أوباما، ومعنى أن يشكل الجنرالات الأميركيون السابقون المعادون لإيران عنوان هذه الإدارة الأميركية الجديدة... ألا يستدعي هذا يا ترى أن يسارع العقلاء في طهران إلى "لملمة" أوضاعهم الإيرانية، وإلى المسارعة لإنهاء كل تدخلاتهم المتمادية في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية؟! وإلى مدِّ أيديهم في اتجاه أيدي العرب الممدودة إليهم بكل طيبة وصدق، من أجل العودة إلى تلك الأيام الزاهية العظيمة عندما كان هناك كل ذلك التكامل الحضاري بين أمتين عظيمتين، يجمعهما الإسلام العظيم؟!