«المغازلجية» القديسون المنبوذون!

نشر في 15-12-2016
آخر تحديث 15-12-2016 | 00:00
 مسفر الدوسري تقديرا للنعم واتساقا مع الآية الكريمة «وأما بنعمة ربك فحدِّث»، فالضرورة المنطقية تستوجب وجود مَن يصغي لمضمون هذه الآية، والجمال بالتأكيد نعمة يحظى بها مَن امتلكها. ومن الإيمان بعظمة الواهب، التعبُّد في محراب عطاياه، والاحتفاء بجمال أي شيء يصادفنا في تفاصيل حياتنا اليومية، أو في مجمل الحياة، وأن نبدي كم نحن حقا مدهوشون ومصغون لدروسه الكبرى في رسم الجمال، وأن نتغزل في الجمال بقلوبنا، وذلك أضعف الإيمان.

الأيمان الأكبر، أن نجهر بغزلنا، فتلك شهادة على رؤيتنا نعم الله، مهما صغرت، والإصغاء لجمال حديثها، وأظن أن أولئك الذين يملكون حسا مرهفا، هم أكثر الناس إصغاء للجمال، وأكثر الناس إيمانا به، وأعني الشعراء والكُتاب والتشكيليين والموسيقيين، وكل من هو قادر على ترجمة مشاعره إلى جمال ملموس، ولو بمجرد كلمة طيبة تطير كفراشة في قلب آخر.

إن مجرد كلمة وارفة بحق جمال، مهما صغر، غزل يعكس وجه الروح، فمن يشحّ حتى بذلك، فإنما يصر على أن يبدو لروحه قرنان يضاف لهما ما تبقى من «إكسسوارات» ليكتمل وجه الشيطان الأخرس!

كل منا ملزم بالشهادة للجمال، طالما رآه بالعين، ولمس قيم الجمال في روحه، ومن أوتي الجمال منا، فليعبِّر عن تفاعله مع الجمال بما أوتي من جمال ما استطاع، لتضج الحياة بالجمال، فإن كان شاعرا فليكتب لنا قصيدة، وإن كان موسيقيا فليسمعنا أغنية، وإن كانت فنانة فلترسم لنا حبها، وإن كان لا يملك شيئاً من ذلك «يحدّث به» فتلك حكمة الله الذي لم يحرمه في ذات الوقت نعمة الإحساس، فليصفق ويميل طربا ويتسامى بصحبة الجمال أينما التقاه، ليطهِّر روحه من رجس أنانيتها، فالروح التي تتضاد والجمال يسقط منها شيء من طهر، ومخطئ من اعتقد أن جزاء الطهر في زمن آخر.

إن الطهر أقصر طريق في الحياة الدنيا للصواب، تصله غالبا حتى قبل أن تتأكد من صحة ما فعلت! فالروح الأنانية التي لا تغازل الجمال تفقد شيئاً من طهرها، وهي غالبا إما روح غيرى، أو جبانة تخشى التعبير في مجتمع يعتبر الغزل ضمن «التابو» المحرم الذي لم يعد يكاد يتسع صندوقه لشيء، تابو من الجهل حدّا يصنّف به كل غزل شرارة حب، خصوصا إذا كان موضوع الجمال بشرا.

فمن يتغزل يصبح كالقديس المعاقب، لا يمارس عبادته، ولا يبلّغ شهادته! فلو أن شاعرة كتبت قصيدة عبَّرت ببراءة فيها عن جمال وجدته في رجل «غير محرم لها»، أو فنانا تشكيليا رسم جسدا فاتنا لامرأة لوجه الفن الخالص، أو مهندسا معماريا صمم بناء على شكل اسم أنثى، لاشتعلت النيران، وغُذيت بالزور والبهتان، ونصبت المشانق، وختم الصك بإعدام المتورطين بتهمة الحب وتحدي الأخلاق العامة، وإثم هؤلاء المساكين أنهم مُنحوا جمالا أرادوا أن يقولوا لمن منحهم إياه، إن هديتك لم تُعمِ قلوبنا ولم تُخرس أصواتنا، وسنسبِّح بحمدك بما وهبتنا من جمال كلما أبصرنا آياتك، كل جريمة هؤلاء أنهم يعرفون أن الغزل سقيا روح بالجمال، بينما الحب سقيا قلب بالحياة، أعني الذين لم يجعلوا الغزل فخ الشهوات!

back to top