أدّى «العيش والملح» دوراً كبيراً في تغيير ميول زبيدة ثروت في طفولتها. كانت الفتاة بارعة في الرسم، حتى أنها حصلت على جائزة عن لوحة رسمتها تعبر من خلالها عن عاطفة الأمومة، كذلك أرادت أن تعمل صحافية عندما تكبر. لكنها عندما شاهدت الفيلم برفقة والدها تمنت أن تكون سينمائية كنعيمة عاكف البطلة.

كانت بدايتها في التمثيل من خلال مسابقة نظمتها إحدى المجلات الأسبوعية بالاتفاق مع المنتج رمسيس نجيب لاختيار وجه جديد يشارك العندليب الأسمر فيلمه. تقدمت هي وشقيقتها التوأم وتحمس لها نجيب فعيناها وابتسامتها الصافية كانت كفيلة بأن تجذب نظرات مكتشف النجوم. تضمنت لجنة التحكيم أيضاً مدير التصوير وحيد فريد، والمخرج محمد كريم الذي لم يتحمس لها بسبب صوتها الذي وصفه بأنه سيكون عيباً خطيراً لديها كونه يخرج رفيعاً بصورة لا تناسب ممثلة السينما. لكنه لم يرد أن يضايقها أو منتج الفيلم الذي اختارها، وأسند إليها مشهداً واحداً في فيلم «دليلة» قدمته مع عبد الحليم حافظ، وتقاضت عنه أجراً رمزياً وفستاناً قدمه لها منتج الفيلم لتظهر فيه.

Ad

يرجع الاكتشاف الحقيقي لموهبة زبيدة ثروت التمثيلية إلى الفنان الراحل يحيى شاهين، الذي شاهد صورتها في المجلة فأسند إليها دوراً مهماً في «نساء في حياتي» حيث جسدت شخصية فتاة تحب رجل أكبر منها في العمر. ورغم أن الإشاعات تحدثت عن قصة حب جمعتها ببطل الفيلم فإن شاهين أكد أنها ضريبة اكتشاف الوجوه الجديدة وتوقعات صحافية بأن يتحوّل حب السينما إلى حب حقيقي، كما حدث مع ليلى مراد وأنور وجدي.

ورغم حداثة عمر زبيدة آنذاك ووقوفها أمام الكاميرا مرة فقط، فإنها أظهرت من اليوم الأول للتصوير رغبة في تطوير قدراتها وموهبتها التمثيلية. بعد تصوير المشهد الأول مع المخرج كمال الشيخ تحدثت بصوت خافت قائلة «يا أستاذ، ألا يمكن تحميض الفيلم الآن». وعندما سألها عن السبب أجابته بأنها ترغب في رؤية طريقة تقديمها المشهد لتعرف ما إذا كان ثمة خطأ في أدائها كي لا تكرره في المشاهد المقبلة، لذا أعجب بشخصيتها وحرصها على تقديم الأفضل أمام الكاميرا، فوافق على طلبها وأدرك أنه إزاء موهبة سينمائية كبيرة.

نجحت زبيدة في الفيلم وارتفع أجرها وأصبحت مطلوبة من المنتجين، قبل أن تتزوج من الضابط البحري إيهاب الأزهري. لكن الزواج لم يستمر طويلاً وانفصلت عنه، على العكس من شقيقتها حكمت التي نجحت في زواجها.

الحقيقة أن زبيدة استفادت من إحالة والدها إلى التقاعد بعد ثورة 1952 حيث تفرغ لإدارة شؤونها، ووقع بالنيابة عنها عقود التصوير. بل إنه تدخل في اختياراتها فكان يقبل الأدوار أو يعتذر عنها بالنيابة عنها، لدرجة أنه حرمها من دور البطولة في أحد أفلام فريد الأطرش بسبب إصراره على أن يسبق اسمها اسمه وهي لا تزال في بدايتها، وهو ما رفضه الفنان الكبير واعتبره إهانة له. حتى أن زبيدة نفسها رفضته بشكل قاطع، لكن والدها تمسك برأيه وتأخرت تجربتها مع الأطرش نحو 20 عاماً ليقدما معاً فيلم «زمان يا حب».

في مسيرتها الفنية، قدمت زبيدة 27 فيلماً، من بينها «عاشت للحب» مع كمال الشناوي حيث جسدت دور سلوى، فتاة تعشق جارها الشاب وتسلم له نفسها لكنه يعاني اعتقاده بأن النساء كافة خائنات، حتى تحاول الانتحار ليلة زفافها على شاب أجبرت عليه من عائلتها. لكن حبيبها حسني ينقذها في المستشفى ويعرف أن حبها حقيقي وليس مزيفاً.

أما في تجربتها «في بيتنا رجل» جسدت شخصية «نوال»، فتاة ترغب في مساعدة البطل الوطني (عمر الشريف) فتقع في حبه وتأمل في الارتباط به. لكن استشهاده في عملية فدائية يجعلها تشعر بالفخر، خصوصاً أنه لم يوافق على السفر هارباً إلى الخارج بعد نجاحه في اغتيال رئيس الوزراء الذي يتعاون مع الاستعمار.

وفي «شمس لا تغيب» تجسد زبيدة شخصية فتاة رقيقة تدعى سها تسقط خلال رحلة في الفيوم مع عائلتها فتصاب بالعمي. بينما يتركها خطيبها يساعدها الطبيب الشاب صلاح (كمال الشناوي) على اجتياز أزمة نفسية حادة، ويجري لها جراحة تستعيد في إثرها بصرها، وينتهي الفيلم بزواجهما السعيد.

اعتزال

اعتزلت زبيدة ثروت التمثيل نهائياً بعد عام 1985. كان آخر أعمالها المسرحية «عائلة سعيدة جداً»، ولم تظهر إطلاقاً بعدما تقدم بها العمر لتحافظ على صورتها في عيون جماهيرها. حتى عندما أطلّت أخيراً في برنامج تلفزيوني مع الإعلامي عمرو الليثي رفضت إبراز وجهها مكتفية بصوتها، وتحدثت خلاله عن إصابتها بالسرطان نتيجة للتدخين بشراهة وعدم قدرتها على الإقلاع عن هذه العادة المميتة. وهي لفظت أنفاسها الأخيرة داخل مستشفى الصفا بعد وعكة صحية حادة ألمت بها لتلقى ربها بالمرض نفسه الذي رحلت به ابنتها قبل عامين.

6 رجال طلبوا يدها

تقدّم ستة رجال لخطبتها فور نشر صورتها في المجلة ولم تكن أكملت عامها السابع عشر. كان الأول موظفاً في إحدى الجهات الحكومية في الإسكندرية وطلب منها اعتزال التمثيل. أما الثاني فكان شاباً جامعياً عمره 29 عاماً يرتدي نظارتين وأبلغ والدها بأنه سيدفع 200 جنيه مهراً لها، وأنه موافق على أن تواصل حياتها الفنية بعد زواجهما، ولا يرغب سوى في أن تمضي العمر معه.

أما العريس الثالث فكان ضابطاً في الجيش وأحد أبطال الملاكمة، وظل يطاردها أمام الكلية رغم رفضها له وتأكيدها أنها لا ترغب في الارتباط، بينما كان الرابع مطرباً شاباً يدرس معها في كلية الحقوق، وكان يدعي أنه ابن خالة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، ما شدها إليه. لكنها تراجعت عن التقرب منه بعدما اكتشفت خداعه لها ولزملائه في الكلية رغبة في تحقيق الشهرة.

أما العريس الخامس فشاب تعرف إليها خلال ممارستها رياضة الفروسية في نادي «سبورتنغ» في الإسكندرية، فيما كان العريس السادس أستاذاً جامعياً درس الاقتصاد في الإسكندرية قبل أن يسافر ويعود في أثر العدوان الثلاثي. ورغم اقتناعها به في البداية، تراجعت بعد رفض والدها الحاسم بسبب فارق العمر (33 عاماً وهي لم تتجاوز 17 عاماً)، خصوصاً أنها لم تكن تعلقت به.

تزوجت زبيدة ثروت ثلاث مرات: الأولى من الضابط البحري ولم يستمر الزواج أكثر من تسعة أشهر، والثانية من المنتج السوري صبحي فرحات وأنجبت منه بناتها الأربع وكان أطول زواجاتها وكان فرحات اشترط عليها الاعتزال قبل الارتباط، والثالثة من الممثل والمخرج عمر ناجي لكنهما انفصلا سريعاً. زيجاتها المتعددة هذه أثرت سلباً على مسيرتها الفنية وعطلتها لفترات.

جاسوسة في ستانلي

كانت الفنانة من عشاق الطبيعة، ولما كانت تعشق الرسم، فكانت تقصد البحر بحثاً عن المناظر الطبيعية، منتهزة يوم إجازتها من المدرسة فتخرج ومعها الأوراق والأقلام الخاصة بالرسم وتختار المكان الذي سترسمه هذا الأسبوع. ولكنها على شاطئ ستانلي الشهير في الإسكندرية، تعرضت في بدايتها الفنية لموقف صعب.

في إحدى الإجازات توجهت زبيدة إلى مكان جديد شاهدته خلال تنزهها مع صديقتها في الليلة الماضية، وكان منظر الغروب رائعاً مع تداخل الأشجار مع البحر بزرقته الصافية. توجهت فعلاً إلى الشاطئ ووضعت أوراقها وبدأت بالرسم لتنقل ما تشاهده في الطبيعة على الأوراق، وفجأة وجدت يداً غليظة تقبض على يدها وفيها القلم، وفوجئت بأنه جندي أسمر الوجه يرتدي ملابس عسكرية وشك في أن تكون جاسوسة نظراً إلى ملامحها الغربية، خصوصاً أنها منطقة عسكرية غير مسموح لأحد بالاقتراب منها.

هي والعندليب

رغم ما كتبته الصحافة الفنية عن قصة حب زبيدة ثروت وعبد الحليم حافظ خلال فيلم «يوم من عمري»، فإنها حرصت على نفي هذه الأخبار فترة طويلة، لكن مخرج الفيلم عاطف سالم أخبرها بأنه من شدة اندماج العندليب بالدور الذي قدمه كان يشعر بأن قصة الحب بينهما حقيقية، وأن الحب كان من طرف واحد.

حاول عبد الحليم الارتباط بالفاتنة الجميلة وذهب إلى والدها وتوقع الأب أن الهدف من الزيارة التعاقد على فيلم جديد مع ابنته بعد نجاحهما في «يوم من عمري»، لكن المفاجأة أنه طلب يدها للارتباط، بينما صدمه رد الأب، قائلا: «يا أستاذ عبد الحليم ابنتي زبيدة لا تريد الزواج من أحد في الوقت الحاضر».

لم يستشر الأب ابنته ولم يبلغها بالأمر رغم علمه بعشقها صوت عبد الحليم قبل أن تعرفه. حتى عبد الحليم نفسه لم يتحدث إليها في الأمر إلا بعد سنوات، وعندما سألت والدتها أخبرتها بأن والدها رفض أن تتزوج ابنته «مغنواتي». وعندما سألته كيف يقبل أن تعمل في التمثيل ويرفض ارتباطها بمطرب، ردّ بحزم قائلاً: «هذا شيء وهذا شيء آخر».

فيلم «يوم من عمري» كان وسيظل أهم أعمالها السينمائية. قدمت من خلاله زبيدة ثروت شخصية فتاة جميلة عائدة من أوروبا بعد استدعاء أسرتها لها لتفاجأ بأن والدها يرغب في إرغامها على الزواج فتقرر الهرب. وتلتقي في حافلة المطار الصحافي الذي أرسلته جريدته لتغطية وصولها كونها ابنة ميلونير، في قصة تحمل طابعاً رومانسياً اجتماعياً.

تنشأ بينهما قصة حب، ويرفض الصحافي في النهاية تسليم الصور التي التقطها لها وهي في خم الدجاج، وبرفقته مع زميله المصور الذي قدم دوره عبد السلام النابلسي، ليؤكد لها أن حبه حقيقي وليس بحثاً عن سبق صحافي فيقرر والدها الموافقة على زواجهما.

ورغم أن زبيدة لم ترتبط بالعندليب فإن وصيتها الأخيرة كانت أن تدفن إلى جوار قبره لتسدل الستار على قصة حب لم يكتب لها الاكتمال في الدنيا.