مع اقترابنا من دخول عام 2017، أصبحت العولمة كلمة بذيئة، ويرى كثيرون فيها مؤامرة دبرتها النخب لتحقق الثراء على حساب الجميع. ووفقاً لمنتقديها، تؤدي العولمة إلى زيادة لا يمكن زحزحتها في الدخل والثروة على نحو يتسم بعدم المساواة: حيث يزداد الأثرياء ثراءً، ولا يحصل الجميع غيرهم على أي شيء... وهكذا من بعبع إلى الذي يليه.

وفي حين لا يخلو هذا الرأي من بعض الحقيقة، لكن الخطأ فيه أكثر من الصواب، والخطأ هنا ليس بلا عواقب: التضحية بِكِباش الفداء على أقل تقدير؛ والأكثر إزعاجاً هي السياسات، التي من المرجح أن تؤدي إلى تفاقم مشاكلنا.

Ad

أول ما ينبغي لنا أن نفهمه بوضوح عندما نفكر في العولمة، هو أنها أفادت عدداً هائلاً من الناس، الذين هم ليسوا جزءاً من النخبة العالمية، فعلى الرغم من استمرار النمو السكاني، فإن عدد الفقراء انخفض في مختلف أنحاء العالم بأكثر من مليار نسمة في السنوات الثلاثين الماضية، ومن بين المستفيدين أولئك الذين خرجوا من دائرة الفقر في دول مثل الهند، والصين، وفيتنام، وتايلند، وماليزيا، وكوريا الجنوبية، والمكسيك، بين دول أخرى.

وفي العالم الغني، استفادت كل فئات الدخل، لأن السلع- من الهواتف الذكية إلى الملابس إلى لعب الأطفال- أصبحت أرخص ثمناً. ولن تؤدي السياسات الرامية، إلى عكس اتجاه العولمة إلا إلى انخفاض الدخول الحقيقية مع ارتفاع أسعار السلع.

تعكس الدعوة إلى كبح جِماح العولمة اعتقاداً مفاده أنها طردت الوظائف من الغرب، فأرسلتها إلى الشرق والجنوب. ولكن التهديد الأكبر للوظائف التقليدية ليس قادماً من الصين أو المكسيك؛ بل الروبوتات، ولهذا السبب يستمر ناتج التصنيع في الولايات المتحدة في الارتفاع، حتى على الرغم من انكماش العمالة في قطاع التصنيع.

ولهذا، ينبغي لنا أن نركز على إدارة التغيير التكنولوجي السريع حتى يستفيد منه الجميع، وهي ليست بالمهمة السهلة، لكنها ليست مستحيلة أيضاً، ولن تفيدنا التعريفات الجمركية والحروب التجارية بأي قدر يُذكَر.

صحيح أن العولمة تسببت في اتساع فجوة التفاوت في الدخل، ولكن الكثير من هذه الزيادة يستحق الترحيب لا الإدانة، إذ يتوقف مدى سوء التفاوت على الكيفية التي يحدث بها والآثار المترتبة عليه، فالتفاوت ليس سيئاً في حد ذاته.

في الهند والصين، جلبت العولمة قدراً أعظم من التفاوت في الدخل، لأنها وفرت فرصاً جديدة- في قطاع التصنيع، وفي الوظائف المكتبية الخلفية، وفي تطوير البرمجيات- استفاد منها الملايين من البشر، ولكن ليس الجميع، وهذه هي على وجه التحديد الكيفية التي يحدث بها التقدم؛ فرغم أننا ربما نجد من الأفضل كثيراً أن يعم الازدهار الجميع، فإن مثل هذه الحالات نادرة إلى حد لا يصدق، وشجب هذا النوع من التفاوت يعني التنديد بالتقدم ذاته.

في الدول الغنية أيضاً تعكس بعض الزيادة في التفاوت فرصاً أفضل، نظراً إلى الانتقال من السوق الوطنية إلى السوق العالمية، فالعالم بأسره بات الآن مفتوحاً لإثراء أصحاب الموهبة الاستثنائية والمبدعين، وهي ليست جريمة أن يثري المرء بتقاسم مواهبه مع عدد أكبر من الناس أو بصنع أشياء جديدة يستفيد منها الجميع.

بطبيعة الحال، لا يخلو التفاوت من جانب مظلم، إذ يتمتع الأثرياء بقدر غير متناسب من النفوذ السياسي، وبوسعهم غالباً أن يعيدوا كتابة القواعد لأنفسهم، أو شركاتهم، أو أصدقائهم.

وفي الولايات المتحدة، لا يمثل هذا مشكلة كبيرة في الانتخابات الرئاسية، التي تظل مفتوحة؛ لكنها مشكلة ضخمة في حالة الكونغرس، حيث يكون «ممثلونا» مقيدين إلى حد كبير بفِعل الحاجة إلى جمع المال، حتى إنهم من غير المرجح أن يُنتَخَبوا أو يظلوا منتخَبين دون حصولهم على الدعم من أصحاب المصالح الأثرياء.

لا أزعم بهذا أن المشرّعين فاسدون، ولكن المقصود فقط، كما زعم لورانس ليسيج من مدرسة القانون في جامعة هارفارد، هو أن المؤسسة فاسدة وغير قادرة على تمثيل الناس الذين لا يتمتعون بالنفوذ الذي يتأتى بالمال، بيد أنه من غير الواضح ما إذا كان الحل الأفضل يتلخص في الحد من التفاوت، بدلاً من تغيير الطريقة، التي يجري بها تمويل السياسة، فلا بأس إذا اشترى الأثرياء اليخوت، أو أنشأوا المؤسسات، أو أصبحوا من محبي الخير، لكن لا ينبغي لهم أن يشتروا الحكومة، التي يجب ألا تكون سلعة مطروحة في السوق.

في سياق أكثر عموماً، يُعَد التفاوت الناجم عن «السعي إلى جني الريع» - أن يثري المرء على حساب الآخرين في حين لا يساهم بأي شيء ذي قيمة للاقتصاد - البعبع الحقيقي، وتشمل الأمثلة التقليدية المصرفيين الذين يمارسون الضغوط على الحكومة لإضعاف القيود التنظيمية، ثم عندما تُفلِس البنوك يخلفون لدافعي الضرائب فوضى باهظة التكلفة يتولون مهمة تنظيفها، وقد أعطت عمليات الإنقاذ الناجمة عن ذلك مبالغ هائلة من الأموال العامة لأشخاص كانوا بالفعل فاحشي الثراء.

على سبيل المثال، استخدمت شركات مثل فاني ماي وفريدي ماك- وكالات تمويل الإسكان الأميركية الضخمة، التي تدعمها حكومة الولايات المتحدة- عضلاتها السياسية لكي تجعل من المستحيل على الكونغرس أن يتمكن من تنظيمها، في حين دفعت لمساهميها من القطاع الخاص وتسببت في تأجيج أزمة السكن.

على نحو مماثل تفوز جماعات الضغط الزراعية بمليارات الدولارات كل عام في هيئة إعانات دعم، كما يجري تشجيع شركات الأدوية للضغط على الحكومة لحملها على رفع أسعار المنتجات الحالية أو تمديد براءات اختراعها، بدلاً من إنتاج أدوية جديدة، هذا فضلاً عن تغيير قانون الضرائب لمصلحة أقطاب القطاع العقاري.

الواقع أن هذه الأنشطة لا تدر شيئاً، لأنها تعمل على إبطاء النمو الاقتصادي، فعندما تكون أسهل طريقة لتحقيق الثراء هي السرقة المقننة، يُصبِح الإبداع والابتكار نشاطاً فاشلاً ومحفوفاً بالمخاطر.

كَتَب أرييل راسل هوكشيلد من جامعة كاليفورنيا في بيركلي عن أشخاص يستشيطون غضباً عندما يرون غيرهم يسبقونهم إلى الثراء، وهو غضب غير مبرر عندما يكون بمنزلة ردة فعل إزاء الأميركيين من ذوي البشرة البيضاء، الذين يتعرضون لعالم أكثر مساواة نظراً إلى اعتيادهم على الامتياز العنصري، أما الغضب المبرر فهو ذلك الذي يوجه نحو الحكومة، التي تعمل على إثراء أصحاب المصالح الخاصة على حساب الجميع غيرهم، وفي اقتصاد متباطئ أو يكاد يتوقف تماماً، حيث ما تحصل عليه لا يأتي إلا على حساب غيرك، تُصبِح مثل هذه السرقة المقننة ممارسة لا يمكن احتمالها.

يعتمد النمو على العولمة وعلى التفاوت المشروع، ولا يجوز لنا أن نتجاهل المتضررين، ولكن يتعين علينا أن نضمن أن علاجاتنا لن تؤدي إلى تفاقم المشكلة، فالبعبع الحقيقي هو أولئك الذين يسعون إلى جني الريع والذين استولوا على جزء كبير من حكومتنا، والتفاوت الذي تسببوا في إحداثه هو التفاوت الذي يجب القضاء عليه.

* أنجوس ديتون ، حائزٌ جائزة نوبل في علوم الاقتصاد عام 2015، وأستاذ الاقتصاد والشؤون الدولية في كلية وودرو ويلسون للشؤون العامة والدولية في جامعة برينستون.

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»