ليالي دمشق... يأس ومتعة في عاصمة الأسد

نشر في 17-12-2016
آخر تحديث 17-12-2016 | 00:03
يسعى سكان دمشق، عاصمة سورية، إلى تجاهل مظاهر العنف رغم احتدام الحرب من حولهم. ازدهرت الحياة الليلية في المدينة، في حين أجبر الجيش المحلي المدعوم من روسيا خصومه على التراجع. لذا اضطر المنشقون المتبقون إلى الاختباء.
قبل شروق الشمس في صباحٍ خريفي صافٍ، غادرت حافلة صغيرة دمشق. انعطفت في البداية حول الطريق السريع الشمالي لتجنّب القناصة الذين ربما يقبعون في كمينٍ بالقرب من الجبهة، ثم عادت إلى الطريق السريع وسارت شمالاً نحو الساحل. كانت متوجّهة إلى حمص.
داخل الحافلة جلس ستة أشخاص يعيشون في الجزء السوري الذي يسيطر عليه الأسد. إنهم أعضاء في مجموعة «مغامرة الفينيق»: نادل، طالبة جامعية، مصمّم، عاشق للرياضة، مدرّب، خبيرة تجميل، كلب من فصيلة الراعي الألماني. كانوا يخططون لتمضية اليوم في الخارج. كان الجو بينهم مرحاً. صاح النادل كنان حدّاد بصوتٍ مترنّح: «المغامرة تنتظرنا!».
تفاصيل المغامرة عرضتها «شبيغل».
شقّت الحافلة طريقها بصعوبة نحو جبل قاسيون تاركةً خلفها عاصمة نظام الأسد دمشق: إنه بحر لامتناهٍ من مبانٍ رمادية وبنّية إلى جانب مآذن وأبراج كنائس تظهر وسط ضباب الصباح الباكر. يقف القصر الرئاسي الصلب كسدّ منيع على تلة محاطة بجبلٍ قاحل وتقع تحته مدينة غارقة بين الخوف والحقد.

كانت إليدا سنجار (21 عاماً)، طالبة اقتصاد تضع طلاء أظفار زهري اللون، تجلس على أحد المقاعد الضيقة ويبدو عليها الإرهاق بعد حفلة حضرتها في الليلة السابقة. تقول إنها تدعم الأسد لأنها باتت تستطيع متابعة دراسة الاقتصاد والذهاب إلى الحفلات الآن، إذ تراجعت حدّة القصف على العاصمة.

الاستقرار أولاً

كان حبيبها كنان يجلس بالقرب منها. إنه شاب قوي وقصير القامة، بدأ يخسر شعره قبل أوانه، ضحكته طفولية وتبدو الهالتان السوداوان واسعتين حول عينيه. هتف: «لا نعيش إلا مرة واحدة». هرب معظم أصدقائه إلى أوروبا، لكنه قرر فتح متجر حيث يقيم الحفلات اليوم حين يستطيع. يقول إن الدولة لا تزال موجودة في أماكن يفرض النظام سيطرته عليها، وإنه لا يهتم إلا بالاستقرار الذي تضمنه الدولة.

لكل شخصٍ من الموجودين في الحافلة أسباب مختلفة لتأييد النظام، لكن يجمع بينهم الخوف من «الدولة الإسلامية». يشتق هذا الوضع من استراتيجية ناجحة استعملها الأسد لطرح نفسه كأهون الشرور المحتملة: رغم رحيل ملايين الناس من البلد هرباً من أهوال الحرب، دفعت «الدولة الإسلامية» كثيرين إلى أحضان الأسد.

فيما كانت الحافلة الصغيرة تتّجه نحو حمص، استمرّ قصف معقل الثوار في شرق حلب بإيقاع متواصل وراحت الطائرات والمروحيات الروسية والسورية تُسقِط قنابلها فيما تتولى الميليشيات الشيعية غزو الأحياء المتلاحقة. يعمل النظام المدعوم من إيران وروسيا على شق طريقه ببطء تمهيداً لتحقيق انتصار عسكري في مدينة حلب السورية الشمالية، ويمكن أن يشكّل ذلك الانتصار نقطة تحوّل حاسمة بالنسبة إلى البلد. تكتفي مجموعة المغامرين بأجوبة مقتضبة عند سؤالها عن القنابل التي تسقط راهناً على المدارس والمستشفيات في حلب. «هكذا هي الحرب!»، يقول كنان، فيما تتساءل إليدا: «هل من خيار آخر أمام النظام؟ يجب أن يدافع عن دمشق. يجب أن تنجو!»، ويزعم قائد المجموعة: «المدنيون في حلب هم الملامون لأنهم يقدمون المأوى للإرهابيين».

حياة طبيعية ظاهرياً

للوهلة الأولى، تبدو الحياة طبيعية جداً في دمشق، البلدة الأم لمجموعة المغامرين، على بُعد 350 كلم من جنوب حلب. لذا لا يظهر أي دمار واضح في وسط المدينة. حين تسقط القنابل على البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها، يلحق الحرفيون بسيارات الإسعاف لطمس آثار الحرب. يبذل الأسد قصارى جهده لعَكْس صورة مدينة مزدهرة ومحو بقايا الدمار من بلده الذي عُرِف يوماً باسم سورية.

بعد ساعتين، دخلت حافلة المغامرين إلى مدينة حمص التي ازدهرت فيها الثورة يوماً قبل أن تتلقى عقاباً وحشياً من الأسد. اليوم، أصبحت أجزاء كبيرة من حمص أشبه بمدينة أشباح ويتصاعد الدخان من الركام المتناثر في المكان.

طبقة وسطى شبه غائبة

عند الوصول إلى اللاذقية، صاح مغامر من الجهة الخلفية للحافلة. تُعتبر اللاذقية معقل الأسد ونسخة «إيبيزا» السورية على ساحل البحر المتوسط. قال قائد المجموعة متعجباً: «تحصل حفلات رائعة في حلب... حتى الآن!». يقول إن المقاطع الترويجية التي نشرها النظام عن ليالي السهر في غرب حلب كجزءٍ من حملته الدعائية دقيقة. كذلك تكشف الفيديوهات السياحية الغريبة التي صدرت في شهر سبتمبر أن منطقة غرب حلب لا تزال على حالها، بمساحاتها الخضراء النضرة وأحواض السباحة الفيروزية في فنادقها ونواديها الليلية المكتظة.

لكن لا يصعب إيجاد الثغرات في هذا الخطاب، حتى في دمشق. فقد اضطرب الاقتصاد بشدّة ويتذمر التجار من تراجع المداخيل ويتخوّف 1.8 مليون لاجئ ممّن قصدوا المدينة ومحيطها من أهوال الشتاء. حتى إن كثيرين يعجزون عن تحمّل كلفة الزيت لتشغيل المواقد المعدنية الصغيرة التي يستعملها الفقراء في هذا المكان للتدفئة. في بعض الحالات، قد تعيش حتى عشر عائلات في منزل واحد داخل البلدة القديمة.

يتردّد هدير مولّدات الديزل في أنحاء الشوارع لأن الكهرباء تنقطع لساعات متواصلة. في الأحياء الفقيرة، يوفّر السكان جزءاً من الكهرباء التي يتلقونها عبر بطاريات السيارات المصنوعة في تايوان. يستنزف التضخم رواتب الناس ويقضي على الطبقة الوسطى وقد تراجعت قيمة الليرة السورية وباتت تساوي عِشْر قيمتها قبل الحرب. تشمل دمشق اليوم أشخاصاً أثرياء أو فقراء وأصبحت الطبقة الوسطى بين الفئتين شبه غائبة.

يحاول الأسد من على تلّته العالية أن يطرح نفسه بصورة الأب الحامي. لكن على أرض الواقع خسر الناس استقرارهم. يتحدّث طبيب نفسي عن زيادة الطلب على الأدوية النفسية بدرجة ملحوظة ويستنكر العقوبات التي تمنع وصول منتجات جديدة. في المقاهي، يقول الناس إن عدداً كبيراً من المدنيين حصل على تراخيص لحمل الأسلحة لأن المجرمين باتوا يتحركون بلا رادع.

يلازم مئات المقاتلين من «الدولة الإسلامية» و«جبهة فتح الشام» مخيّم اليرموك الفلسطيني السابق الذي يقع في دمشق، على بُعد أربعة كيلومترات من حلبات الرقص والحانات. حفر المقاتلون الأنفاق تحت الحي كله واستعملوها للزحف تحت مواقع خصومهم، وتُسمَع طلقات القنّاصة أحياناً بين المباني المدمّرة.

يحاول الأشخاص الذين لم يضطروا إلى رؤية مظاهر العنف التعتيم عليها. قرر عدد كبير من الشباب الذين تقبّلوا الحرب التوقف عن قراءة الأخبار. ما عادوا يريدون أن يعرفوا حقيقة ما يحصل في حلب. يقول كنان: «كلما تراجعت معلوماتنا، ستتحسّن حياتنا». هم يهربون إلى عوالمهم الخيالية ويمارسون المشي لمسافات طويلة أو يحتفلون أو يعزلون نفسهم عن الواقع. سبق ورحل معظم الناس الآخرين من البلد.

لكن خسر آخرون في المدينة قدرتهم على الابتسام. يصرّ هؤلاء على متابعة الأخبار ويقولون إن الحياة أصبحت باللونين الأبيض والأسود، فهم تعبوا من الوضع بغض النظر عن الطرف الذي ينحازون إليه، وأصابهم الحزن والاكتئاب لأن بلدهم يحتضر.

هرب إلى المتعة

في المقابل، لا يمكن رؤية عشرات آلاف الناس الآخرين في الشوارع على الإطلاق، فهم يختبئون في الشقق والأقبية هرباً من الخدمة العسكرية والأجهزة السرية وممارسات التعذيب والموت. أصبحت دمشق معقلاً ثلاثياً للمتعة والخوف والدمار.

توقفت حافلة المغامرين في وادي النصارى، أمام دير قديم، حيث التلال خضراء والوادي القريب من الحدود اللبنانية مليء بقرى صغيرة. لم يحصل أي قتال واسع في هذا المكان منذ فترة. كان المغامرون يتّجهون نحو قلعة الحصن.

ثم انعطفت الحافلة مجدداً نحو الطريق السريع لكنها عادت أدراجها هذه المرة إلى دمشق. إنه مساء يوم الجمعة وسيتدفق الشبان والشابات إلى الحانات في الباب الشرقي وباب توما. أطلق كنان اسم «الحنين» على متجره لأنه يريد من ضيوفه أن يفكروا بالأيام الجميلة قبل الحرب. علّق ورقاً منقوشاً بالقرميد على الجدران ثم زيّنها بصور بوب مارلي وفرقة «البيتلز» وجيمي هندريكس. قال الشاب مبتسماً: «لم أعد أهتمّ بما يحمله المستقبل». يدرك أن الحفلات اللامتناهية في دمشق قد لا تبدو لائقة في نظر كثيرين لكنه يقول إن الإنسان يكون شاباً مرة في الحياة.

طوال سنوات قبل الحرب، عمل كنان في وحدة مكافحة الاحتيال في أحد البنوك. لكن حين فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات جديدة على سورية في ربيع عام 2011 وحين أصبحت الحرب الأهلية السورية قريبة جداً من دمشق لدرجة أنّ كثيرين راحوا يشككون بقدرة الأسد على الصمود، انهار الاقتصاد.

لم يعد العمل في القطاع المصرفي منطقياً بعد تلك الحوادث. صمد كنان لخمس سنوات ثم فتح أخيراً متجره الخاص في شهر يوليو.

قتال نهاراً واحتفال ليلاً

اتّجه كنان نحو باب توما، إحدى البوابات المؤدية إلى البلدة القديمة. تظهر السيارات في الشوارع الضيقة وتتّجه كلها نحو حي الباب الشرقي الذي أصبح حديثاً مقصداً لرواد السهر وتقف فيه الكنائس والمساجد بالقرب من منازل مؤلفة من طابقَين ولها نوافذ متضررة. إنها أهم منطقة بالنسبة إلى المسيحيين في المدينة. لم تكن القذائف والصواريخ كافية كي تسلخهم من المنطقة وحافظوا على ولائهم للنظام.

قسّمت الحرب المدينة إلى جزأين مثلما فعلت بالبلد كله، ففصلت بين الأشخاص الذين تصالحوا مع النظام وبين أولئك الذين يرفضونه حتى الآن أو يعجزون عن تقبّله. لم يعد أحد يقدّم المساعدة لهذه الفئة من الناس الذين نظّموا تظاهرات سلمية ضد النظام في عام 2011 وأطلقوا شرارة الثورة التي بدأت تموت راهناً فيما يتفرّج العالم على ما يحصل من بعيد.

يعيش أحدهم في حي جرمانا الفقير في جنوب شرق حدود دمشق حيث تتشابك خطوط الكهرباء بين المباني المتلاصقة. طلب أن نسمّيه حساماً في هذه القصة واعترف بأن أطول مسافة قطعها في السنة الماضية اقتصرت على توجّهه إلى متجر صغير في نهاية الشارع. لا يستطيع هذا الشاب الابتعاد عن مكانه لأنه يختبئ مثل عشرات آلاف الشباب الآخرين في المناطق السورية التي تقع تحت سيطرة الأسد.

عالق في شارعه

يتعرّض كثيرون للمطاردة لأسباب سياسية لكن يختبئ عدد إضافي من الناس لتجنب التجنيد الإجباري. ينتمي حسام إلى هذه الفئة الأخيرة كونه لا يريد أن يحارب مع النظام بعدما أمضى 16 سنة وهو يعارضه. بموجب القانون، كان يجب أن ينضمّ إلى الجيش قبل أربع سنوات. لكن منذ 18 أكتوبر 2015، حين مشّط جنود بملابس مدنية الشوارع وقبضوا على آلاف الشبان، لم يغادر شارعه الصغير.

كان حسام محامياً في السابق. حين بدأت الاحتجاجات في عام 2011، استيقظ من الخمول السياسي الذي غرق فيه بعد دخوله السجن في المرة الأخيرة. كان نزل إلى الشارع وانضم إلى التظاهرات: إنه خيار مؤلم لأنه تعرّض لضرب مبرح في ركبتيه وكاحليه بأنابيب بلاستيكية خلال اعتقاله. لاحقاً بدأت الحرب فاعتُقِل مجدداً وتعرّض للتعذيب قبل إطلاق سراحه.

لا يستقبل حسام أي زوار في منزله لأن هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر لكنه يتلقى اتصالات هاتفية. حدثنا إليه يومياً طوال أسبوع. قال في أحد أيام الآحاد إنه يجلس كما يفعل كل يوم في شقة صغيرة حيث يقيم مع زوجته وابنته. هم يعيشون من مال يتلقاه الأب من والديه أو من أصدقائه أحياناً، لكنه يتساءل: «الشتاء قادم. كيف يُفترض أن أحصل على المال لشراء زيت التدفئة؟». يطرح حسام هذا السؤال على نفسه يومياً لأنه لا يملك ما يكفي من المال لشراء الطعام أو النفط أو دفع الإيجار. لكنه يريد في المقام الأول أن ينجو.

أضاف: «إما أن تؤيد النظام أو تصبح بمصاف العدو. إما أن تكون جزءاً من ميليشيا أو تصبح رجلاً غارقاً في المخاوف!». بحسب رأيه، يراقب النظام أراضيه بوحشية: «إذا لم تجمع الأجهزة السرية معلومات عما تفعله، سيقوم المجتمع أو الجيران بهذه المهمّة».

لم يشأ حسام يوماً مغادرة بلده لكنه يقول: «ظننتُ أن من واجبنا أن نملأ الشوارع حتى زوال النظام. لكني ما عدتُ قادراً على فعل ذلك». من أصل 50 شخصاً كان يقابلهم باستمرار للتحدث عن السياسة في بداية الانتفاضة، لم يبقَ على الأرجح أكثر من عشرة أشخاص في دمشق، فقد «سيق الآخرون إلى الجبهة للتخلص منهم» كما يقول.

«بدأوا يقتربون منا»

في يوم الأحد نفسه، جلبت زوجته صديقتها إلى المنزل. قال حسام إن ابنها يبلغ ثماني سنوات وماتت بناتها في هجوم بقذائف الهاون. يعاني الصبي اكتئاباً حاداً، وقد حاول الانتحار بشكل متكرر ولم يعد يتكلم.

غادر حسام الغرفة حيث كانت زوجته وصديقتها تتحدثان لأنه ما عاد يستطيع سماع قصص مماثلة. قال إنه علم من معارفه الذين يعيشون في ضواحي المدينة أن النظام بدأ يفتّش المباني المتضررة في المنطقة. يبحث اللاجئون هناك عن مأوى لهم فيها رغم غياب الأبواب والنوافذ والماء والكهرباء. يبلغ إيجار تلك المواقع $50 في الشهر. أوضح حسام: «اليوم، بدأوا يسحبون الرجال في عمر التجنيد». أضاف قبل إغلاق الخط: «بدأوا يقتربون منا!».

يعيش كل من يستفيد من الحرب على مسافة قريبة، على بُعد مئتَي متر من منزله، ويجني هؤلاء المال بسرعة وسهولة. إنهم أعضاء الميليشيات الذين يخوضون الحرب نيابةً عن الأسد لأن جيشه النظامي يكتفي بالتفرّج على الحوادث منذ فترة طويلة.

تدعم الميليشيات النظام وتُحسِن السلوك في دمشق وكأنها تحكم المدينة، ولا شك في أن الحرب تُدمّر الأخيرة وتدفع سكانها إلى الهرب والإحباط. إذا لم تكن واثقاً من أنك ستعيش حتى يوم الغد، ستفقد المحرّمات أهميتها!

ربما تبدو هذه الفكرة سخيفة لكن تبقى دمشق مدينة جميلة رغم كل شيء، فهي لا تزال فاعلة ظاهرياً على الأقل. لكنها تنزف حتى الموت في أعماقها وتسحق سكانها الذين يعلنون الدعم لحاكمهم من باب الخوف، أو يهربون، أو يموتون!

الاقتصاد اضطرب بشدّة والتجار متذمرون من تراجع المداخيل

الشباب يهربون إلى عوالمهم الخيالية أو ينعزلون عن الواقع

1.8 مليون لاجئ ممّن قصدوا دمشق ومحيطها يتخوّفون من أهوال الشتاء

هدير مولّدات الديزل يتردّد في أنحاء الشوارع لأن الكهرباء تنقطع ساعات متواصلة
back to top