«جوهر في مهب الريح»... مسرحية وفيلم وثائقي بطولة 40 سجيناً
تجربة رائدة لزينة دكاش لتحسين أوضاع السجناء القانونية والنفسية
هل يعقل أن يحمل سجين قضية سجناء آخرين ويصرخ على الملأ أن أنقذوا هؤلاء الذين يصنفهم المجتمع «مختلين عقلياً»؟ هل يعقل أن يكون سجين صاحب قضية يناضل لأجلها بدل الانكفاء في السجن يعدّ الأيام والليالي في عمر عالق على قارعة زمن توقف الانتظار عند بابه، وسيطر الفراغ القاتل على كل ثانية فيه؟
«جوهر في مهبّ الريح» مسرحية تتمحور حول هذه الأسئلة وغيرها من تأليف زينة دكاش وإخراجها، كوريغرافيا بيار خضرا، تتألف من 19 مشهداً عرضت في سجن رومية في بيروت، وتعرض راهناً كفيلم وثائقي في الصالات اللبنانية.
«جوهر في مهبّ الريح» مسرحية تتمحور حول هذه الأسئلة وغيرها من تأليف زينة دكاش وإخراجها، كوريغرافيا بيار خضرا، تتألف من 19 مشهداً عرضت في سجن رومية في بيروت، وتعرض راهناً كفيلم وثائقي في الصالات اللبنانية.
لا تشبه «جوهر في مهب الريح» بقية المسرحيات، إنها علامة فارقة في المسرح اللبناني، ذلك أن أبطالها سجناء محكومون بالمؤبد أو بالإعدام، يعيشون فراغاً قاتلاً، ولم يعد ثمة فاصل بين أيامهم ولياليهم. الوقت عندهم هو هو، يمضونه وهم يجترون ذكرياتهم البعيدة التي لم يبقَ منها سوى بعض صور عن طفلة، عن والدة، عن حي، عن شارع، عن أصدقاء كبروا في مفهوم الزمن، لكن ملامحهم تجمّدت في ذاكرة السجناء. أربعون سجيناً محكومون بالإعدام والمؤبد في سجن روميه شرق بيروت، هم أبطال مسرحية «جوهر في مهب الريح»، التي عرضت في مايو الماضي داخل السجن وتعرض اليوم كفيلم سينمائي، هدفها تحسين الأوضاع القانونية والنفسية للسجناء.
تجربة رائدة
وقف أربعون سجيناً على خشبة المسرح بإدارة المخرجة زينة دكاش، وشرح كل واحد منهم الأوضاع المزرية التي يعيشها في السجن، باعتبار أن أفق خلاصهم منه محدود جداً حتى ليمكن القول إنه مستحيل، ولأنهم أصحاب قضية، كانت وقفتهم قوية على المسرح، واغتنموا الفرصة لرفع الصوت عالياً بضرورة فصل الشخصي عن الحق العام للأحكام المؤبدة، والمطالبة بتخفيض عقوبة أصحاب الأمراض النفسية عبر إلغاء عبارة «لحين الشفاء» من القانون.ولأن السجناء الموجودين في المبنى الأزرق، أي في قسم الأمراض النفسية، لا يقوون على رفع صوتهم، فإن زملاءهم السجناء، أبطال المسرحية، تولوا هذه المهمة عنهم وجسدوا شخصيات هؤلاء، فكان أداؤهم لافتاً وقوياً، عبروا من خلاله، للمرة الأولى، عن معاناتهم ومعاناة زملائهم المرضى النفسيين، وأجادوا الأدوار التراجيدية كما الأدوار الكوميدية، فأبكوا بقصصهم وخبرياتهم الجمهور العريض الذي يواظب على حضور الفيلم الوثائقي، وأضحكوه بنهفاتهم وبتقمص أحدهم شخصية امرأة، وختموا المسرحية بأغنيات ورقص. ليست هذه التجربة المسرحية الرائدة الأولى لزينة دكاش، فقد سبق أن قدّمت في هذا السياق مسرحية «12 لبناني غاضب» (2007) التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي حاز جوائز عربية وعالمية، وشارك فيه سجناء في سجن رومية، ثم عرض على شاشات السينما كفيلم وثائقي، كذلك «شهرزاد في بعبدا» شاركت فيه سجينات في سجن بعبدا وصوّر كفيلم وثائقي عرض في مهرجانات محلية وعربية وعالمية ونال جوائز.
قصص منسيين
تنقل المسرحية قصص منسيين في السجن، يعانون اضطرابات نفسية، عبر مونولوجات ومشاهد قصيرة ورقص وموسيقى. اللافت هنا أن من يحضر المسرحية ينسى أن من يقف أمامه هو سجين، بل يجد نفسه في مواجهة مع ممثل محترف، صاحب قضية محقة يسعى إلى إيصالها إلى المعنيين. وهنا لا بد من القول إن السجناء تجاوزوا ذاتهم ووضعهم، وانتقلوا إلى قضية أكبر هي إلقاء الأضواء على شريحة واسعة، تعاني قهراً وذلا وبؤساً ولا من يلتفت إليها أو يحدد لها مدة محكوميتها، ويتضح من خلال المسرحية أن كثراً توفوا وعيونهم متجهة صوب الباب الخارجي للسجن الموصد بأقفال جعلها توالي الأيام صعبة الفتح، بل مستحيلة. وهذا جهد يحسب لزينة دكاش، التي حوّلت المساجين من مجرد أشخاص «نكرة» إلى أناس يخاطبون المراجع المسؤولة بصوتٍ عالٍ ويعززون حضورهم كأشخاص فاعلين وليس كمجرد أرقام. على مدى ساعة ونصف الساعة تسمّر الجمهور أمام هؤلاء الذين صاروا في لحظة هاربة من الزمن محور اهتمام ومتابعة، فتكلموا بصوت عالٍ وبثقة بالنفس، وحضّروا أدوارهم بعناية، فالذين تقمصوا شخصيات زملائهم المرضى النفسيين، جلسوا معهم وتناقشوا في كيفية تجسيدهم إياها، ذلك كله بإدارة المخرجة زينا دكاش التي عرفت كيف تخرج من السجين طاقات إيجابية. لم تكتفِ زينة دكاش بعرض المسرحية وفي ما بعد الفيلم الوثائقي عنها، بل اجتمعت مع صانعي القرار وإدارة السجن للاطلاع على شؤون المرضى النفسيين فيه، ووضع «المبنى الأزرق» الذي أنشأ عام 2002 وهو مخصص لهذه الشريحة من السجناء، لكنه غير مجهز بالوسائل الكفيلة بحمايتهم، ما يضعهم في طريق مسدود لا خلاص منه إلا بالموت.انطلاق المشروع
بدأت الفكرة تضج في عقل زينة دكاش ووجدانها في عام 2012، خلال جلسة علاج مع سجينات في سجن بعبدا، إذ لاحظت أن إحداهن تتصرف بطريقة غريبة، ولما سألت عن السبب قيل لها إنها مريضة نفسياً، ولا يستطيع الأطباء وضع تقرير يعلن شفاءها، بالتالي لا يسمح المسؤول عن السجن بإخراحها إلا بأمر من الأطباء، وهنا تكمن الطامة الكبرى.بعدما جمعت زينة دكاش معلومات حول هذه القضية ورفعتها إلى السلطات المعنية من قضاة وغيرهم، تأمل أن تتبدل أوضاع السجون قريباً، لا سيما أنها نجحت من خلال مسرحية «12 لبناني عاضب» في حثّ المسؤولين على تخفيض عقوبة المحكوم عليه حسن السيرة، وبعد مسرحية «شهرزاد»، دعمت قضيتها الجمعيات كافة المطالبة بحماية المرأة. لا شك في أن زينة دكاش نقلت إلى الجمهور صورة مريعة حول أوضاع السجون في لبنان، حثّت من خلالها المسؤولين على الالتفات نحوها وإماطة اللثام عن حقيقة أوضاعها المريبة الشاقة والشائكة. من هنا لم يعد المحكومون في المسرحية الأخيرة مجرد أرقام وقطيع يمشي حيث يدله السجان، بل نجحوا في انتزاع تأييد الناس لهذه القضية المحقة التي تفتقر إلى الوعي والإرشاد. أساس عمل زينة دكاش هو المسرح والعلاج بالدراما، فكان ذلك جواز مرورها إلى سجن بعبدا وإحداثها انقلاباً، فللمرة الأولى تفتح أبوابه وتسمح بمناقشة هذه القضية المؤلمة. تخفيض العقوبات
بدعوة من المركز اللبناني للعلاج بالدراما «كثارسيس» وبدعم من الاتحاد الأوروبي وبرعاية وزير الداخلية والبلديات في لبنان نهاد المشنوق، قدم 40 سجيناً من المحكومين بالإعدام أو المؤبد على مدى ساعة ونصف الساعة عرضاً تمثيليا يحكي قصصاً عن السجناء الذين يعانون أمراضاً نفسية ومنهم محكومون بالمؤبد، بهدف إيصال صوتهم ليتحقق التعديل القانوني المتعلق بتحسين الوضع النفسي والقانوني لشريحتين منسيتين من السجناء، الأولى تتعلق بالسجناء ذوي الأمراض النفسية مرتكبي الجرائم، والثانية تشمل المحكومين بالأشغال الشاقة المؤبدة أو بالإعدام، الذين لا يمكنهم تخفيض عقوباتهم رغم أن القانون أجاز لهم ذلك، ولكن بشروط شبه مستحيلة، كاستحصال السجين على إسقاط للحقوق الشخصية من ذوي الضحية أو دفع التعويضات الشخصية التي غالباً ما تكون قيمتها مرتفعة، وقد تصل إلى 500 مليون ليرة لبنانية، ولا طاقة للسجين على دفعها.
المشاهد ينسى أن من يقف أمامه سجين بل يجد نفسه في مواجهة مع ممثل محترف صاحب قضية محقة