انطلقت الانتفاضة الشعبية في سورية عام ٢٠١١ في سياق ثورات الربيع العربي، ولم تتعد في مطالباتها القضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية المشروعة كالتي جاءت بها ثورة الياسمين في تونس ورمزها "محمد البوعزيزي"، ولحقتها ثورة ميدان التحرير في القاهرة ورمزها "خالد سعيد"، ثم لحقتهما الليبية، فالسورية واليمنية التي نادت جميعها، سلمياً، بحق شعوب تلك الدول في العيش الكريم والحريّة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، واستعادة هيبة دساتيرها، ورد الاعتبار لحقوقها المشروعة في اختيار حكامها وحكوماتها. ولم يك مِن مطالبها نصرة دين أو طائفة أو مذهب، فالجميع كان متعايشاً ومتحاباً ومندمجاً بسلام.

تحوّل "الربيع" آنذاك إلى "دمار" لاحق على الدول التي فشلت في تدارك الانزلاق نحو ارتهان المطالب المدنية للنوازع القبلية، كما في ليبيا، والنوازع المذهبية، كما في سورية واليمن وقبلهما العراق، ولم يَنْجُ من ذلك المنزلق سوى تونس ومصر حين انصرفتا لتحقيق المقاصد المدنية السلمية لثورتيهما، وإنْ صادفهما الكثير من التعثر "المقدور عليه"، ونأتا بنفسيهما عن دمار الحروب الأهلية الدينية والمذهبية.

Ad

مأساة ما يجري في سورية واليمن وقبلهما العراق، تمثلت باختطاف التيارات الدينية المتطرفة فيها لثوراتها المدنية وتوجيهها دينياً ومذهبياً، فأشعلت أنظمتها (فرحاً بذلك التحول) الاشتباكات المذهبية بين المسلمين في تلك الدول، وشرّعت الأبواب على مصاريعها لدخول المناصرين للأطراف المتحاربة لصرف الأنظار عن الأهداف المدنية المشروعة للثورات التي قامت ضدها، وانهالت قوى النصرة والجهاد وحزب الله والدواعش (بكل ألغازها)، لتكون قِواماً للحروب الأهلية المدمرة في تلك الدول، وليستعين كل طرف ويستقوي بدول سنية هنا وشيعية هناك، وغُلّت يد الشعوب، واختَطف تجارُ الحروب نقاءَ الثورات ليشعلوا صراعات طائفية خاضت غمارها دول وأحزاب وتنظيمات من خارج الحدود، انتصاراً لطرف على الآخر، وسعياً لتحقيق مقاصدها الاستراتيجية بعيدة المدى، واصطف الغرب متفرجاً على ذلك الفخار الذي يفتت بعضه بعضاً، ولتفوز إسرائيل بالغنيمة النهائية من تلك الفصول العبثية والعدمية في تاريخ أمتنا العربية المنكوبة بالأحقاد الطائفية والمذهبية البغيضة التي هي أس البلاء.

إن آلات الدمار في سورية تفرغت لاستدعاء تراث التطاحن الإسلامي من العصور الغابرة، ليصير وقوداً لاشتعال المذابح العدمية الدائرة على الأرض السورية اليوم، بزعم تدمير التنظيمات الإرهابية السنية تارة، أو الانتصار على النظام العلوي ومواليه من تنظيمات تارة أخرى!

من رحم مآسي حلب يوشك العقلاء منا على الالتحام كفريقين يراقبان من بعيد، فإن طالب بَعضُهم برحيل حاكم سورية فكأنه يطالب بثبات تنظيم داعش وغيره من قوى الإرهاب، وإنْ طالب بَعضُهم الآخر برحيل هذه العصابات الإرهابية فكأنه يقف ضد الدين أو المذهب وينادي باستمرار الجلاد، وفي الحالتين أصبحنا كالمستجير من الرمضاء بالنار! والكل منا لا يملك سوى الدعاء والبكاء على الدمار الذي يصطلي بنيرانه الأبرياء.

الخطير أن خطابات التضامن مع أهالي حلب نحت نحو الصِدام الطائفي واستحضار صراعاته إلى ساحاتنا الآمنة، وهو أمر مرفوض من أي طرف كان!

أخيراً، مستغرب وغير مفهوم صمت التيار المدني السوري الذي أطلق شرارة الحراك السياسي هناك، وهو يمتنع اليوم عن النطق بصوت الشعب المنكوب، وسط هذه المأساة التي بلغت مداها في أرض الشام الحبيبة، في حين أننا لا نرى أو نسمع في الساحة سوى صليل سيوف المتحاربين باسم الدين!

لك الله يا حلب.