«الببغاء»!
في هدوء يثير الدهشة، وصمت يفجر أكثر من علامة استفهام، شهدت مسابقة «المٌهر القصير» في «مهرجان دبي السينمائي الدولي» في دورته الثالثة عشرة (7 – 14 ديسمبر 2016) العرض العالمي الأول للفيلم الروائي القصير «الببغاء» (ألمانيا والأردن/ 2016 ) سيناريو وإخراج دارين ج. سلاّم وأمجد الرشيد، بالإضافة إلى رفقي عساف الذي شاركهما كتابة السيناريو. ومبعث الدهشة أن الفيلم ينطلق من فكرة غاية في الجاذبية والالتباس، ويطرح قضية نستشعر حساسية مفرطة حيالها، فضلاً عن حواره الذي يمزج بين العربية، اليديشية والعبرية!يعري فيلم «الببغاء» (18 دقيقة)، ويُندد بشكل واضح وجريء، العنصرية التي تسيطر على الكيان الذي اغتصب فلسطين، وتجلت بشكل صارخ في تقسيم المجتمع بين «الأشكناز» (اليهود الذين ترجع أصولهم إلى أوروبا الشرقية والوسطى والغربية) و{السفارديم» (اليهود الذين جاؤوا من إسبانيا والبرتغال والبلقان وغيرهم). أما «المزراحيون» (فهم اليهود الشرقيون ويهود الشرق الأوسط تحديداً). وأهمية الفيلم في تأكيده أنها «عنصرية تاريخية»، فأحداثه تعود إلى عام 1948 (عام تقسيم فلسطين)، من خلال العائلة المزراحية التي حطت رحالها في حيفا قادمة من تونس، ونجحت بالوساطة والرشوة والمحسوبية، في الاستيلاء على بيت عربي كان يملكه «سعيد نعيم»، وأصبح مُخططاً له، في إطار المؤامرة التي استهدفت الاستيلاء على الممتلكات الفلسطينية وتهجير أهلها بالقوة والعنف والإرهاب في إطار ما سمي «الترانسفير القسري»، أن تسكنه العائلة المزراحية التي تتكون من «موسى» (أشرف برهوم) وزوجته «راشيل» (هند صبري) وابنتهما «عزيزة» (الطفلة ياسمين بن عمارة)!
في مكان واحد يتمثّل في البيت العربي القديم (تصوير سامر النمري) تدور الأحداث بالكامل، وفي اللحظة التي تتردد في الأرجاء أغنية «بتبصلي كده ليه» للمطربة ليلى مراد، في إشارة خبيثة إلى جذورها اليهودية، تفاجأ العائلة المغتصبة بظهور «الكابوس» الذي ينغص عليها حياتها، فالسكان الأصليون تركوا وراءهم، بإرادتهم أو رغماً عن أنوفهم، «ببغاء» أصبح بمثابة «مسمار جحا»، الذي أحال حياة «الغُزاة» إلى جحيم، إذ لا يتوقف عن سبهم بأقذع الألفاظ الجنسية الخادشة والخارجة، وهم لا يملكون له دفعاً أو حيلة!حفل الفيلم بإشارات ذكية للغاية (مونتاج يامن بنعزوز) كالمشهد الذي تسبب فيه «الببغاء» في إحداث وقيعة بين عائلة «موسى» المزراحية وعائلة «بنيامين» (فراس طيبة) و{روزالين» (لارا صوالحة) المتحذلقة، وأفسد الصفقة التي كانت في الأفق، في تأكيد قاطع على انعدام سبل الوفاق بين الطرفين، والإقرار بأنه مجتمع محكوم عليه بالفناء في المستقبل القريب أو البعيد، وهو المعنى الذي يتجدّد مع قول «راشيل» لزوجها: «بيقولوا على الاشكناز بربر»، فيما تسعى السلطة العسكرية المحتلة، بشكل حثيث، إلى تهويد الأرض والبشر معاً، حيث يقوم الجندي المرتشي بتنبيه «موسى» بشكل دائم بأن يُسقط من حسبانه اسم «داود» وينطقه «دافيد»، وأن ينادي زوجته «راحيل» وليس «راشيل»، وكأنه ينفذ مخططاً مرسوماً بدقة لتغيير الهوية!في 18 دقيقة قال «الببغاء» الكثير، وربما يثير ما قاله جدلاً، في حال اتهامه بممارسة «التطبيع»، غير أن الفيلم، الذي نال سابقاً جائزة مؤسسة «روبرت بوش»، كان جديراً بالعرض في مسابقة «المُهر القصير»، التي تعرض مجموعة مختارة وحصرية من الأفلام القصيرة الروائية، وغير الروائية، التي «تُظهر العمق والاتساع الثقافي في المنطقة»، كما تهدف إلى «اكتشاف ورعاية المواهب الشابة، وتشكل منبراً لجذب المخرجين الجُدد، الذين يُشارك بعضهم للمرة الأولى»، وهي الأهداف التي تنطبق على تجربة «الببغاء» بدرجة كبيرة، فالمخرجة والكاتبة الأردنية دارين ج. سلاّم أنجزت أربعة أفلام قصيرة، من بينها الفيلمان القصيران «لا زلت حياً» و{الظلام في الخارج»، اللذان عرضا في ركن الأفلام القصيرة في {مهرجان كان} في عامي 2010 و2013. أما المخرج والمنتج الأردني أمجد الرشيد فهو من اختير خلال الدورة الـ 57 لمهرجان برلين السينمائي الدولي عام 2007 لحضور ملتقى برلين للمواهب، وهو منتج ما يقرب من خمسة أفلام قصيرة سبق لها الحصول على جوائز في مناسبات عدة، وأنجز كمخرج المسلسل الكوميدي الأردني «رانيا شو».«الببغاء» نطق بما عجز عنه «المُفوهون»... وهذه رسالة السينما الجميلة.