الوضع السياسي الآن في سورية أصبح في غاية التشابك والصعوبة والتعقيد والتناقض أيضاً، إذ تداخلت تعقيدات داخلية كثيرة نتجت عن فاشية النظام الاستبدادي واستخدامه للقوة المفرطة والسلاح ضد الثورة السلمية التي اندلعت في عام 2011 مطالبة بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم، مع الوجود الأجنبي في الأراضي السورية لدول رأسمالية كبرى تدافع عن مصالحها ونفوذها بالدرجة الأولى، لا عن الطائفة السنّية أو الطائفة الشيعيّة كما تُروّج إعلامياً بعض الأطراف السياسية المستفيدة من أجل دغدغة العواطف الدينية للناس البسطاء الذين هم وقود المعارك العسكرية الطاحنة وضحايا الاستبداد السلطوي والطائفية السياسية. الوجود الأجنبي تمثّل في"التحالف الدولي" الذي تقوده أميركا، والاحتلال الروسي، بجانب الحضور العسكري الإيراني المباشر، والميليشيات الطائفية المُسلّحة والمتطرفة، سواء السنية أو الشيعية التي تخوض حرباً بالوكالة.

في ظل هذا الوضع المُعقّد، فإنه من غير الممكن استخدام التحليل السطحي، أو الاكتفاء بمجرد استحضار حوادث تاريخية طائفية وإسقاطها عليه، فالوضع المُعقّد والمُركّب يحتاج إلى تحليل مُعمّق يأخذ في الاعتبار جميع العوامل والمتغيرات والظروف الداخلية والخارجية، ثم يربطها بتعقيدات الواقع وتناقضاته من أجل معرفة الأسباب الرئيسة التي أدت إلى ذلك.

Ad

وعلى الرغم من الوضع المزري والمُعقد، فإنه من التجني تحميل الضحية، وهو الشعب السوري الذي قُتِل منه حتى الآن 600 ألف إنسان بالإضافة إلى المصابين والمشردين واللاجئين، مسؤولية ما يجري هناك، وإبراء ذمة الجلاد وهو النظام القمعي الاستبدادي الذي احتكر السلطة والثروة عقوداً طويلة، ودمّر البلد من أجل بقائه. كما أنه من غير المنطقي أيضاً تجاهل وجود ميليشيات طائفية مُسلّحة بعضها قامت دول إقليمية ودولية بتسهيل عملية وصولها من الخارج كي تقوم بدلاً منها بخوض حرب بالوكالة، أو تجاهل أن البديل الذي تطرحه قوى الإسلام السياسي هناك، سواء داعش أو الإخوان والميليشيات الطائفية القريبة منهم مثل جيش الشام والنصرة وجيش الفتح وغيرها الكثير كي يخلف نظام الطاغية المستبد، هو بديل رجعي لا يقل تخلفاً واستبداداً ووحشية عن النظام القائم.

وفي السياق ذاته، فإن اتخاذ موقف إنساني ضد ما يقوم به هذه الأيام النظام القمعي والطائفي بمساندة حلفائه الروس والإيرانيين والميليشيات الطائفية المُسلّحة من مجازر دموية، وقتل عشوائي للأطفال والمدنيين الأبرياء، وتطهير طائفي في مدينة حلب المنكوبة، ثم التضامن مع الشعب السوري عموماً، لا يعني بالضرورة تأييد الطرف الطائفي على الضفة الأخرى والوقوف في صفه. هذا خلط متعمد للأوراق يقوم على ثنائية مزيفة مازالت تحكم عقلية البعض في منطقتنا العربية، حيث تحصر المسألة في ثنائية عقيمة ملخصها "ما لم تكن مع هذا الطرف فأنت بالضرورة مع الطرف المقابل"، رغم وجود بديل آخر وهو رفض الطرفين معاً وعدم الانحياز إلى أي منهما. في سورية، على سبيل المثال، هناك البديل المدني الديمقراطي لدولة حديثة وعادلة تتسع للجميع الذي سبق وطرحه الشعب السوري في بداية الثورة ومازال قسماً أساسياً منه متمسكاً به حتى الآن رغم صعوبة الأوضاع وقسوتها، وإن كان صوته غير مسموع جيداً هذه الأيام بعد انتشار الدمار البشري الرهيب، وارتفاع صوت الرصاص، وانحياز وسائل الإعلام المحلية والعالمية وفقاً لمصالحها.