المفترض أن تكون الولايات المتحدة قد تعلمت من الدرس العراقي الشيء الكثير، فعندما غزت العراق وحلّت الدولة والجيش والأجهزة الأمنية فتحت الأبواب على مصاريعها أمام إيران لتحتل هذه الدولة، ولتنكل بأبنائها وفقاً للانتماء الطائفي، ولتلاحق بالإهانات والتجويع كرامات ضباط الجيش العراقي، لأنهم أبلوا بلاءً حسناً في حرب الأعوام الثمانية، ودافعوا عن بلدهم ووطنهم دفاعاً مجيداً ببطولات عظيمة، فماذا كانت النتيجة؟

كانت النتيجة أن هؤلاء الضباط، ومعهم كثيرون من جنودهم، قد اضطروا للهروب بأرواحهم وكراماتهم وشرفهم وأعراضهم إلى تنظيم "داعش" الإرهابي:

Ad

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عـدواً له ما من صداقته بدُّ

ومن المفترض أنه بات معروفاً للأميركيين والإيرانيين وللعرب والعجم، وكل من يهمه هذا الأمر، أن صمود هذا التنظيم الإرهابي في الموصل وغير الموصل يرجع إلى انضمام هؤلاء الضباط ومعهم كثيرون من جنودهم إليه، وهذه هي إحدى نتائج ذلك الخطأ الفادح الذي ارتكبته الولايات المتحدة عندما بادرت إلى حلِّ الدولة العراقية، وحل جيشها وإلغاء كل مؤسساتها وأجهزتها الأمنية، فكانت النتيجة فراغاً بادرت إيران إلى ملئه بسرعة، ومارست، من خلال حراس ثورتها وتنظيماتها المذهبية وأتباعها، على فئة معينة هي العرب السُّنة بطشاً منهجياً دفع الكثيرين من هؤلاء إلى طلب الحماية من عدوٍّ لهم ليس من صداقته بدُّ.

وسترتكب الولايات المتحدة، في عهد دونالد ترامب والإدارة الجمهورية الجديدة، حماقة جديدة أخطر من هذه الحماقة الآنفة الذكر، إنْ هي بعد تعيين هذا "الصهيوني" ديفيد فريدمان سفيراً لها في إسرائيل، الذي قال إنه ينتظر بفارغ الصبر القيام بمهمته: "في العاصمة الأبدية لإسرائيل في القدس"، بادرت إلى نقل سفارتها من تل أبيب إلى المدينة المقدسة التي بقيت واشنطن ومعها معظم دول العالم لا تعترف بها عاصمة للدولة العبرية.

من الآن يجب أن يعرف الأميركيون أنه إذا نفذ ترامب وعده المشؤوم ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس أن المستفيد الأول سيكون تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي سيجد المبرر الذي بات يريده وينتظره على أحر من الجمر، وهو يقترب من لفظ أنفاسه الأخيرة في الموصل والعراق وسورية وفي العالم بأسره، ليعيد تسويق نفسه على البسطاء من "المسلمين" من جديد، ومرة أخرى على أساس أنه حامي حماهم، وحامي ديارهم المقدسة في فلسطين، وفي كل مكان من الكرة الأرضية!

ولذلك يجب ألا تقع الإدارة الأميركية الجديدة في مثل هذه الحماقة القاتلة، لأن نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس هو تحدٍّ للمسلمين كلهم، ولن يستفيد منه إلا التنظيمات الإرهابية المتطرفة وفي مقدمتها "داعش"... وعلى هذه الإدارة أن تدرك أن هذه مسألة لا يجوز اللعب فيها، وأن ما قد تقوم به في هذا المجال سيعرضها هي نفسها بكل ولاياتها لأخطار فعلية وحقيقية، بالإضافة إلى أن كل سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية... وجالياتها أيضاً ستكون معرضة لمثل هذه الأخطار... وهذا ما لا يريده لا العرب ولا المسلمون... على الإطلاق.