أشباح سانت بطرسبرغ... الروس متعطّشون إلى البطولات

نشر في 20-12-2016
آخر تحديث 20-12-2016 | 00:03
سانت بطرسبرغ
سانت بطرسبرغ
في «لينينغراد» القديمة، وتسمى اليوم سانت بطرسبرغ، يحتفظ الجميع بذكريات عن حصار المدينة الروسية خلال الحرب العالمية الثانية وارتفاع حصيلة القتلى في تلك الحقبة، مع أن الخطاب العسكري الذي يستعمله النظام الروسي لا يزال مغرياً! تقرير مشوّق من «اكسبرس» الفرنسية.
يكفي أن نمضي بضعة أيام في روسيا خلال هذه الفترة لنشعر بأن الصراع المسلّح بات حتمياً. وفق مرسوم حديث وقّعه رئيس البلاد فلاديمير بوتين، أصبح الاتحاد الأوروبي متّهماً بـ«التوسّع الجيوسياسي» وبالسعي إلى «زعزعة الاستقرار الإقليمي والعالمي». على التلفزيون الوطني، هدّد الصحافي ديمتري كيسيليف المعروف بقربه من الكرملين بتحويل الولايات المتحدة إلى سحابة من الغبار النووي! في البرلمان، يتحدث فلاديمير جيرينوفسكي، رئيس حزب قومي متطرّف، عن وقوع حرب عالمية ثالثة قريباً. وفي شوارع المدن الكبرى، ظهرت ملصقات على السيارات كُتب عليها «إلى برلين!» أو «نشكر أجدادنا على انتصارنا!» أو «1941-1945، يمكننا تكرارها!». وكأنّ ذكرى ملايين السوفيات الذين قُتلوا خلال الحرب العالمية الثانية ليست كافية لاستمالة الناس! في بداية شهر أكتوبر، أصدر حاكم سانت بطرسبرغ أمراً بتخزين كمية كافية من القمح كي يستفيد منها السكان طوال عشرين يوماً في حال وقوع أزمة (ما يساوي 300 غرام من الخبز).

جرح قديم

لم تواجه أي مدينة روسية أخرى أهوال الحرب عن قرب بقدر سانت بطرسبرغ! في هذه المنطقة تشكّل كل وجبة طعام من الوجبات الثلاث الأساسية في بعض العائلات مناسبة للتفكير، ولو لجزءٍ من الثانية، بالأهالي أو الأجداد الذين لقوا حتفهم. بين 8 سبتمبر 1941 و27 يناير 1944، حوصرت «لينينغراد» (حملت اسمها منذ الحقبة السوفياتية) من القوات الألمانية النازية طوال 900 يوم تقريباً. كانت الخسائر البشرية ضخمة، فقد مات نحو مليون و800 ألف شخص، من بينهم مليون مدني! مات معظمهم من الجوع والبرد ولا تزال أشباحهم تجوب الشوارع حتى اليوم ويمكن سماع همساتهم على طول الواجهات التي تحمل لوحات قديمة تحذّر المارة من مخاطر القصف.

تشبه الحرب في هذه المدينة جرحاً قديماً لم يلتئم يوماً! يقول إيفغيني أنيسيموف، أستاذ تاريخ في جامعة محلية: «بالنسبة إلينا، يشكّل الحصار صدمة شبيهة بأثر المحرقة بالنسبة إلى اليهود أو الإبادة الجماعية بالنسبة إلى الأرمن. لم توفّر تلك الأهوال أي عائلة».

تتذكر ليلا شنايدر (82 عاماً) والدموع في عينيها النزاع البطيء الذي عاشه جدّها في الشقة التي كانت تقيم فيها عائلتها في صغرها وتتذكّر البرد القارس وأقاربها الجائعين الذين أصبحوا أضعف من أن يصعدوا سلالم المبنى كي يصلوا إلى شقتهم الواقعة في الطابق الخامس، لذا انضموا إلى بقية أفراد عائلتهم في الطابق الأرضي.

أما لودميلا فينوغرادوفا، فوُلدت خلال الحصار ولا تحمل أي ذكرى عن تلك الحقبة. لكن لطالما أثّر بها صمت والدتها المطبق: «كان الموضوع مؤلماً جداً لدرجة أنّ مناقشته بدت مستحيلة. كل سنة، في ذكرى رفع الحصار، كانت والدتي تتأثر إلى حد البكاء. لاحظتُ أيضاً أنها كانت تضع المأكولات دوماً على طاولة المطبخ وكأنها تخشى أن نفتقر إلى الطعام...».

يتحدث آخرون عن اكتشاف أوعية البرغل المحفوظة تحت أسرّة أبنائهم بعد موتهم، أو عن نظرات الخوف على وجوه أهاليهم ما إن يقع فتات الخبز على الأرض، أو عن ارتداء طبقات متشابكة من الملابس الصوفية منذ تساقط أولى الثلوج وكأنّ الحياة تتوقف على ذلك!

فتح باب الجحيم

لكن كيف يتفاعل سكان سانت بطرسبرغ المتمسّكون بذكريات الحرب مع الخطابات القومية والعسكرية التي تغزو روسيا في عهد فلاديمير بوتين، الملازم السابق في الاستخبارات السوفياتية والمولود في هذه المدينة أيضاً؟ يبدو طرح هذا السؤال في العاصمة الإمبريالية القديمة أشبه بفتح أبواب الجحيم لأنه يكشف مدى تأثّر الروس بالتجربة الإمبريالية في عهد القياصرة أو السوفيات!

على مسافة قريبة من قصر «بافلوفسك» القديم، يتذكّر ماكسيم شوستاكوفيتش زمن الحصار وأول عرض للسمفونية السابعة التي ألّفها والده لتكريم «لينينغراد» ومقاومة سكانها للغزاة الألمان: «في عام 1942، كنتُ صغيراً طبعاً. أعطتني والدتي بعض السكاكر على أمل أن أحافظ على هدوئي خلال الحفلة الموسيقية. لم أنسَ يوماً طعم تلك السكاكر!».

أصبح ماكسيم شوستاكوفيتش قائد فرقة موسيقية وعاش في المنفى الأميركي خلال الثمانينيات قبل أن يعود إلى بلده الأم في عام 1992. اليوم يبدو أنه يأخذ خطر اندلاع الحرب على محمل الجد: «أنا قلق طبعاً! انظروا إلى سورية والأحداث في أوكرانيا... لا أتمنى وقوع أي صراع لكني ألاحظ الفجوة المتزايدة بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة وبين بقية بلدان العالم من جهة أخرى. أنا مسرور لأنني عدتُ إلى روسيا ولا أفهم الجدل الذي يزعج الغرب وهجومه على الزواج مثلاً. أنا أرثوذكسي مؤمن وأشعر بأنني روسي أكثر من أي وقت مضى! يمكن أن أختصر حالتي الروحية بالعبارة التالية: من الأفضل أن نعاني كل ما هو ممنوع على أن نضحك على ما هو مسموح!».

يُشار إلى أنّ نسبة الروس الذين حصلوا أخيراً على جوازات للسفر إلى الخارج اقتصرت على %13، واستعمل شخص من كل ثلاثة أشخاص الجواز لزيارة بلد غربي، بينما اكتفى معظمهم بالذهاب إلى شواطئ مصر أو تركيا حين كانت هذه الأماكن آمنة.

استرجاع النفوذ

يفضّل الناس عموماً تصديق معلومات وهمية عن الانتصارات العسكرية الغابرة بدل أن يعترفوا بحقيقة مهينة. يرتبط هذا الموقف بشكلٍ أساسي بانهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات. في سانت بطرسبرغ كما في مناطق أخرى، لم يتقبّل الروس يوماً تلك الإهانة. كان النظام السوفياتي كارثياً لكن لا أهمية لذلك. اليوم يطمح الروس إلى استرجاع النفوذ الهائل الذي كانوا يتمتعون به ويبدو أنهم يتعطّشون إلى عيش المغامرات والبطولات. ولما كان بوتين وأعوانه يريدون التمسك بالسلطة بكل بساطة، فمن الطبيعي أن يتجاوبوا مع هذا الطلب بلا تردد. على عكس الحزب الشيوعي الصيني الذي يفكر بالمستقبل، يبدو أن الكرملين يعجز عن وضع سياسة تنموية مستدامة. لذا يبالغ في الإشادة بالماضي «المجيد».

يقول الصحافي المرموق والنائب السابق ألكسندر نفزوروف: «لا يفهم معظم الشعب الروسي حقيقة العالم الذي يعيش فيه. تحت تأثير النظام الحاكم والكنيسة الأرثوذكسية تحديداً، طوّر الشعب رعباً حقيقياً من الغرب وديمقراطيته الليبرالية وقيم التسامح التي ينشرها».

يتابع: «لا يجيد قادتنا تحقيق الإنجازات الكبرى لكنهم كسبوا خبرة معيّنة في فن الترهيب. مع ذلك لن آخذ على محمل الجد احتمال حصول صراع مسلّح مع بلد غربي. على عكس الروس الذين يصدّقون كل ما يسمعونه، يدرك النظام أنه لن يصمد لثلاثة أيام في وجه الجيش الأميركي».

في سانت بطرسبرغ ومختلف المناطق، تُحقّق جلسات التدريب شبه العسكري نجاحاً متزايداً. يتهافت الأولاد والمراهقون لتعلّم تقنيات القتال وطريقة استعمال الأسلحة. يوضح يوري بوبوف، عسكري متقاعد ومدير إحدى «الجمعيات الوطنية»: «لا أحد يريد خوض الحرب. لكن حين يحمل الدبلوماسيون رأياً مخالفاً، ستدافع الشعوب عن بلدها. هذا ما يحصل دوماً». يا له من وضع واعد!

back to top