مسألة الدِّين في السنة الجديدة

نشر في 20-12-2016
آخر تحديث 20-12-2016 | 00:22
 بروجيكت سنديكيت مع حلول سنة 2017، يعود الجدل القديم حول دور الدين في المجتمع إلى الظهور، ويتمحور حول مدى تحديد الدين للشرعية السياسية، وللمرجعيات الاجتماعية، والهويات الشخصية.

الدور الاجتماعي للدين مشكلة واضحة في منطقة الشرق الأوسط، لكنه أصبح الآن يُسبب التوتر في أوروبا أيضاً، وذلك بسبب تدفق اللاجئين المسلمين على القارة، وفي الولايات المتحدة، إذ أججت حملة الرئيس المنتخب دونالد ترامب المخاوف بشأن التشدد الإسلامي. ومع ظهور الحركات الإسلامية المتشددة خلال العقد الماضي، يتساءل كثير من الناس في الغرب عما إذا كان الإسلام بطبيعته في صراع مع التنوع، وهل فعلاً يرفض «الآخر»، وبذلك يتعارض مع الحداثة العلمانية؟

هذا النقاش له آثار بعيدة المدى بالنسبة للمسلمين الأوروبيين والأميركيين على وجه الخصوص، إذ يعتبر معظم المراقبين الغربيين والأوروبيين بشكل خاص أن الفصل بين الكنيسة والدولة (أو المسجد والدولة) مسألة حاسمة لضمان دور سليم للدين في المجتمع، ومن هذا المنظور فإن الدين إطار فلسفي وأخلاقي موجود خارج المجال العام، ومسألة شخصية تخضع للخيار الفردي، منفصلة عن إعادة إنتاج النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لكن هذا المنظور برز أساساً بعد إصلاح اليهودية والمسيحية، لاسيما في مناطق معينة من الغرب، ولا مكان لهذه الرؤية في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وخصوصاً في المجتمعات الآسيوية، التي لديها فهم مختلف بشكل كبير لمكانة الدين في حياة الناس.

في مجتمع يدين فيه أغلبية الناس بدين معين، يبنى النظام المجتمعي على قواعد وقوانين تُعتبر مقدسة، وعلى مؤسسات اجتماعية موقرة تتوفر على موارد ضخمة، فعلى سبيل المثال؛ جامعة الأزهر في القاهرة، التي تعد واحدة من أقدم الجامعات في العالم، والتي أُنشئت قبل أكسفورد مثلاً بعدة عقود، كانت أساس المعرفة بالنسبة للعالم الإسلامي السني كله لأكثر من 800 سنة.

وبالنسبة إلى المؤمنين في هذه المجتمعات، فالدين هو أساس هويتهم ومصدر راحتهم خلال أوقات الخوف والحزن، أو عدم اليقين. وهكذا يلعب الدين دوراً مهماً في المجتمعات، مثل تلك الموجودة في الشرق الأوسط، التي عانت الاضطرابات خلال سنوات.

لكن كما أظهر التاريخ، مراراً وتكراراً، عندما يكون الدين مترسخاً في المجتمع، تؤثر القوى السياسية في المؤسسات الدينية لخدمة مصالحها الأنانية ولإسكات المعارضة، ولطالما طرح ذلك مشكلةً فترةً طويلة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، إذ كانت السلطات الدينية نادراً ما تحكم بشكل مباشر، على عكس ما حدث كثيراً في التاريخ الغربي، لكنها كانت بدلاً من ذلك تمثل أجنحة الدولة، التي تمارس من خلالها النخب السياسية السلطة.

وتبدو الهياكل الاجتماعية والسياسية المبنية على أساس ديني أقل قدرة على التكيف مع التغيير والابتكار، ويدل ذلك الجدال الحاصل في أماكن كثيرة من الولايات المتحدة، حول ما إذا كان يجب على المدارس تعليم بعض النصوص عن الخلق، جنباً إلى جنب مع نظرية التطور، على مدى صلابة الأيديولوجية الدينية، حتى في أكثر المجتمعات تقدماً.

ليس هناك نقص في هذه الأمثلة، مما يبين أن الدين يمكنه توفير الدعم العاطفي، لكن دوره كهوية أحياناً ما يكون مصدر مشاكل اجتماعية، فطوال تاريخ الأديان السماوية والآسيوية، كان الأتباع غالباً ما يجرّحون الأقليات الاجتماعية، وينبذون التعددية لمصلحة الانسجام، وكما يدل تاريخ العصور الوسطى وعصر النهضة في أوروبا، والوضعية الحالية في أجزاء من العالم الإسلامي، فإن الدين يمكن أن يغذي التشدد، ويمكن استخدامه لتبرير فرض قيود على حرية التعبير.

هذه المشاكل تتفاقم عندما تضطر المجتمعات ذات العلاقات التاريخية المشحونة للتعايش، وهذا ما يحدث في البلدان التي فرضت عليها قوى أجنبية حدوداً معينة. كما تزيد الأمور سوءاً في البلدان التي مرت بتجارب معقدة مع الحداثة، والتي تختلف فيها الفئات الاجتماعية حول كيفية إفادة الدين للتشريع والسياسة والهويات، وماهية الأشياء التي ينبغي اعتبارها مقدسة، ويمكن أن تصبح هذه الخلافات بمنزلة قنبلة موقوتة عندما تواجه فئة الشباب (أغلبية السكان في المجتمع) مشاكل سياسية واقتصادية حادة لم تكن هي السببَ في حدوثها.

ليس من المستغرَب أن تُسبب كل هذه الديناميات المتناقضة العديد من الحروب التي يعانيها الشرق الأوسط اليوم، ويبدو أن المنطقة الآن تمر بمرحلة تطهير عرقي مؤلم، في أعقاب انهيار الهياكل المؤسسية التي كانت تحدد مجال المشاركة السياسية مدة سبعة عقود، حيث بدأ الصراع الطويل حول القضايا الأساسية، مثل دور الدين في المجتمع، يظهر الآن بوضوح في كثير من الأحيان عن طريق العنف.

لكن هذا ليس هو المستقبل الوحيد الممكن، فعلى شباب الشرق الأوسط أخذ العِبرة من إنجازات وفشل مجتمعاتهم على مدى القرنين الماضيين، ويمكنهم التفكير في تأثير أول لقاء للعالَمين العربي والإسلامي مع الحداثة العلمانية، كما يجب عليهم التعلم من التجارب السياسية للغرب في الحقل الديني خلال الـ400 سنة الماضية. هذا التفكير هو أفضل أمل لنقل المنطقة نحو مستقبل أكثر إشراقاً، أما البديل فهو مواصلة دفع ثمن باهظ للتدين، من دون جني أي فوائد محتملة.

*طارق عثمان مؤلِّف كتاب «الإسلام... ماذا يعني لمنطقة الشرق الأوسط والعالم» وكتاب «مصر على شفا الهاوية».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».

back to top