الشاعر المصري محمود قرني: نخبتنا المثقفة «خائنة» ونحتاج إلى المثل الأعلى

نشر في 21-12-2016
آخر تحديث 21-12-2016 | 00:04
الشاعر المصري محمود قرني
الشاعر المصري محمود قرني
قدّم الشاعر محمود قرني قراءة مدهشة لموقفه من التراث في كتابه الصادر أخيراً «وجوه من أزمنة الخوف»، واستطاع تفتيت مفهوم جماعات واسعة من الأصوليين الذين ما زالوا حتى الآن يدفعون باتجاه العودة إلى الماضي سواء عبر استغلال الفجوات العقلية أو عبر القتل والترويع. يطوف الشاعر محمود قرني بين عوالم الإبداع وإشكالياته. التقته «الجريدة» وأجرت معه هذا الحوار.
هل تكونت فكرة كتابك «وجوه من أزمنة الخوف» خلال مقارنة قمت بها بين مفهوم المثقف ودوره الآن وبين المثقف في أزمان مختلفة؟

ليس تماماً، لكن ثمة رغبة كامنة خلف فكرة الكتاب تمثّل نوعاً من الانحياز إلى مجموعة من القيم الفكرية تترجمها نوعية الاختيارات التي قدمتها عبر شخصيات الكتاب. تجاوز الانحياز هنا فكرة تقديم نماذج مؤتلفة يتفق معها الكافة، بل شمل أيضاً نماذج مختلفة تمثّل قيماً سلبية في مجالاتها وتوجهاتها. في الوقت نفسه، أتصور أن استدعاء نماذج بعينها يحمل في جوهره مقارنة ضمنية بين مثقف الأزمنة الماضية وبين المثقف الآن من دون أن يكون ذلك بالضرورة انتصاراً لزمن على آخر، فالقيم الثقافية والفكرية واحدة في الأزمنة كافة وإن اختلفت آفاقها وتجلياتها وموضوعاتها.

وإن لم يكن ذلك صحيحاً كيف تكون المقارنة بين المثقف الآن وبين نظيره خلال القرن المنصرم في مصر والعالم؟

لا يخلو عصر من مثقفيه ومبدعيه الكبار، لكن بكل أسف، الناس يأخذون أقدار أزمنتهم، وزمننا ليس سيداً لنا بل هو سيد علينا. لا أحب كلمة الزمن فعادة ما نتعامل معها باعتبارها وصفاً أخلاقياً، يبدو هنا قدراً لا بد من التعامل مع تجاذباته الإقليمية والعالمية، وإذا استبدلنا بكلمة الزمن كلمة التاريخ سنكون أكثر علمية ونحن نعالج قضية المثقف بين الأمس واليوم.

دور المثقف

كيف ترى على وجه التحديد أدوار المثقف الحقيقي؟

ليست ثمة وصفة محددة يمكن لمثقف أن يسرد محتواها باعتبارها صورة المثقف الحقيقي. من ناحيتي، أتأسى بما كتبه بورخيس ذات يوم من أنه بين جملة الكاتبين أحياناً ومن جملة القارئين غالباً. من هنا، لا يجب أن نندهش إذا عرفنا أن مفكرين أكبر مني ومن المثقفين الذين تقصدهم احتقروا مهنة الكتابة بل وسخروا من حضارتهم وأوطانهم لأنها أهانت قيماً رفيعة طالما حلموا ببقائها. إلا أنني لست متأكداً من أن هذا الأمر كان مدفوع الأجر وبهذا السخاء الذي نراه مع مثقف اليوم، فقد اعتزل جان جاك روسو صاحب العقد الاجتماعي الكتابة بعد 10 سنوات فقط من امتهانه لها قائلاً: «ظللت عاقلاً إلى الأربعين ثم تناولت القلم». ثم أضاف كلمة فاصلة في الأمر: «... أما نحن البشر العاديون الذين لم تشأ السماء أن تحبونا مواهب عظيمة فلنظل في جهالتنا، ولنترك لغيرنا مهمة تعليم الناس». أما الشاعر الأميركي آلن غينسبرغ الذي تجرأ وقال لأميركا: «اذهبي فضاجعي نفسك بقنبلتك الذرية»، فقد مات جائعاً، بعدما كتب هجائيته الشهيرة «عواء» نعياً لتلك المدنية القاتلة بينما لم يكن في جيبه سوى دولارين وسبعة وعشرين سنتاً. أما القديس أوغسطين فواتته الجرأة أن يصف التاريخ الروماني جملة بأنه تاريخ عصابة من اللصوص، ليس لأن الأمبرطورية الرومانية تفتقر إلى المثل الأعلى ولكن لأن كتابها ومفكريها خانوا أمانة الكلمة وعظموا قيمة البطولة الزائفة لمقاتلين نهبوا مغانم وثروات وأراضي لم يكن الهدف الكامن وراءها سوى الانتصار لقيم القوة الغاشمة، فما الذي يمكنك أن تقوله عن مثقف اليوم؟

ما خطورة غياب شريحة المثقفين أو تعطيلها في مجتمعاتنا؟

يجب أولاً أن نحدّد شريحة المثقفين تلك قبل أن نتحدّث عن خطورة غيابها، فأربعون عاماً من التجريف قضت على أدنى المعايير الممكنة لتحديد صورة المثقف، وأصبحت جماعات المصالح والمافيات هي من يحدد معنى المثقف وغير المثقف، حتى بات من الطبيعي أن تجد ناقداً كبيراً بلا نقد وشاعراً كبيراً بلا شعر وروائية كبيرة بلا رواية.

من هو المثقف في تقديرك؟

المثقف هو ذلك الكائن الذي يتفهّم تماماً أن فكرة النظام اختراع يعني امتثاله إلى أنياب وحوش ترتدي بزات وربطات عنق، ومع ذلك لا بد من أن يستمرّ في تهذيب تلك الأنياب!

التراث والسياسة

لو تحدثت عن التراث الثقافي المصري والعربي عموماً، ماذا تقول؟

قضية التراث مشكلة مركبة وشديدة التعقيد، وهي ذات مستويات عدة في التناول، فهي بالأساس تعبير عن صراع الماضي بسلطته الثقيلة مع الحاضر التواق بطبيعته إلى التحرر من أسر الأبوية، وبين هذه وتلك تقف تيارات شتى ما زال الصراع بينها غير محسوم. لكنني أظنّ أن سلطة الماضي ما زالت ثقيلة بما يكفي لتقويض أفكارنا وتصوراتنا عن المستقبل.

كيف تتحكّم السياسة في عقل المثقف في رأيك؟

مشكلة كثيرين من المثقفين العرب أن لا علاقة لهم بالسياسة على المستويين المعرفي والحركي، خصوصاً من أتوا بعد سقوط الأيديولوجيات. تعامل معظم هؤلاء مع الواقع من منظور تكنوقراطي تقريباً إذا صحت التسمية. كانت غالبيتهم تعادي السياسة باعتبارها خطراً على الإبداع من ناحية وضد فكرة العمق من ناحية أخرى. هذه طبعاً مغالطات لا يقع فيها مثقف، غير أن المدهش أن تجد هؤلاء كلهم تحولوا إلى ساسة ومناضلين بعد الربيع العربي لدوافع وأسباب ستختلف من واحد إلى آخر، وانتهت السياسة إلى واحدة من السلع الرائجة ضمن شبكات المصالح التي تمددت في السنوات الأخيرة فلم يعد الهدف منها قيادة المجتمع بل التآمر عليه، وهذه للأسف صورة المثقف والسياسة معاً.

غياب المثل وخيانة النخبة

يرى الشاعر محمود قرني أن أخطر ما طرأ على دور المثقف المصري والعربي عموماً خلال الأربعين عاماً الماضية فكرة تغييب «المثل»، ما دفع جموع الناس في النهاية إلى صناعة مثلهم واصطفاء رموز من بينهم، وما مدارس الفقه التكفيري كافة، متعددة المرجعيات، سوى واحدة من تلك التجليات. يتابع: «الشعبيون وحدهم دفعوا ثمن الثقة التي تمنحها العامة لنخبة خائنة، وليست الثقافة المصرية في ذلك مثلاً فريداً فمؤسسات الحكم، ورجال المال والسلاح يملكون أيضاً مثقفين قادرين دائماً على استنبات الورود من شواهد القبور. الدهشة هنا لا تعني إدراك متأخر لحجم الخيبة، قدر كونها تعني أن شيئاً لم يتغيّر. وأستطيع القول إن المكون الثقافي بات يعمل لصالح منظومات «ضد بشرية» إن صحت التسمية، فعلى مرأى ومسمع من هؤلاء المثقفين ظلّت اقتصاديات الدولة مرتهنة لرأسمالية فجة، وبقيت الحريات فأرة مختبر يمكن الفتك بها في أية لحظة تحت وطأة التجربة، والعدالة هاربة إلى مأوى أكثر أمناً، والعامة تستغيث فلا تُغاث، والمثقف الذي كان يجب أن يكون صوتاً لهؤلاء أصبح سوطاً عليهم. وأتذكر هنا أن أحد التعريفات الطريفة التي قدمها إليوت للثقافة أنها: «الكُرُنب المسلوق، وموسيقى الشعب، والموانئ، وحارات ومدقات الأجداد، ودورات الألعاب الرياضية «، والمعنى هنا أن تعريفات الثقافة لا تبقى صفوية سوى عند النخبة التي تحافظ دائماً على تعاليها فتظلّ مفصولة عن محيطها الشعبي. لذلك أتصوّر أن الدولة الجديدة، ونحن معها، في أمس الحاجة إلى تجاوز الحديث عن اختصار المعركة المقبلة في المواجهة مع تيارات الإظلام وحكايات السلف إلى البحث في الكيفية التي يصنع بها المجتمع مثله وقدوته عبر نخبة لم تحقنها مضادات العزلة».

زمننا ليس سيداً لنا بل هو سيد علينا

من الطبيعي أن تجد ناقداً كبيراً بلا نقد وشاعراً كبيراً بلا شعر وروائية كبيرة بلا رواية
back to top