يبدو خارج سياق اللحظة العربية والإنسانية الراهنة أن أكتب بعيداً عما يجري في مدينة حلب، حتى لو كان يُراد لهذه الزاوية أن تخوض في الشأن الثقافي. لكن، منْ قال إن ما يجري في حلب بعيداً عن الثقافة؟ ثقافة اللحظة الإنسانية الماثلة والطاغية على كل ما سواها! ثقافة التسابق المحموم، وفي شتى وسائل الإعلام، ووسائل شبكات التواصل الاجتماعي، على نقل الحدث الحي الدائر، بعيداً ودون النظر إلى بشاعة أو همجية أو فُحش أو حميمية ذلك الحدث، وفي أي مكان في العالم. المهم الفوز بسبق نشر الحدث!

أليس القتل للاشيء إلا لكون إنسانٍ ما يحمل اسماً، أو لقباً، أو سحنةً، أو انتماءً، أو أنه يسكن في منطقة بعينها، أو لأن حظه التعس سار به في تلك البقعة في لحظة بعينها. أليست هذه ثقافة عنف متوحشة تليق بتوحش لحظة القرن الواحد والعشرين؟ ثقافة تصرّ على بثِّ صور القتل الحي، والجنس الحي، والتآمر الحي، والطيران الحي، والطب الحي، والطبخ الحي، واللعب الحي؟ تبث جميع هذا، ليس بوصفه أي شيء سوى أنه حدث دائر وطازج، وحبذا لو وقف المشاهد والمتابع عليه.

Ad

ليس مهماً العنف والدم والعهر والقهر، لا شيء مهما، فوحده الإعلام الدائر على مدى أربع وعشرين ساعة، والملاحق للخبر، ووحده الموقع المتجدد، ووحده الإنسان الشاطر، وحدهم من يستطيعون تقديم الخبر الجديد لنا، ونحن في استرخائنا على مقاعد المتفرجين!

أليس تسابق مواقع التواصل الاجتماعي على نشر صورة طفل مشوّه، أو امرأة تصرخ باغتصابها، أو عجوز يبكي شيخوخته، أليست هذا ثقافة جديدة؟ ثقافة تجعل من الحدث المأساوي مادة للتواصل الاجتماعي، ومادة لنيل المزيد من المتابعين والتعليقات، ومادة تقول إن ما يجري يجري، وإن الإنسان معني بما سيأتي بعده، دون أن يكلف نفسه مشقة النظر إلى بشاعة ولا إنسانية الحدث!

تحتفظ الذاكرة البشرية بصور مآسٍ مرَّت بها، لكن من المؤكد أن مجازر مدينة حلب، وما يحدث من تشويه وطمس لهوية المدينة ببشرها وحجرها، لهو أمرٌ يصعب تصديقه! ويصعب أكثر من ذلك فهم ما يدور خلفه، وتصبح الصعوبة بالغة إذا حاولت، وأنا هنا أتكلم عن نفسي، فهم مرامي الدول المتورطة فيه!

لا أظن أن الاجتماع على بشاعة وإدانة مشهدٍ ما يحتاج إلى كثير من الاجتهاد، خصوصا إذا ما كان المشهد مثلما يجري في حلب. فالذائقة البشرية السوية، يُفترض بها إدانة العنف والوحشية والقتل والتدمير والتجويع والتشريد. لكن ما تناقلته وكالات الأنباء وشبكات التواصل الاجتماعي، من ظهور الرئيس السوري بشار الأسد بكامل أناقته وهدوئه وابتسامته، ليقول إن حلب تصنع التاريخ، وإن مواقع التواصل الاجتماعي تتناقل التبريكات، وانه أراد أن يتجاوز التبريكات إلى القول إن ما حدث في حلب يؤرّخ للتاريخ الإنساني. هل يُعقل أن يبارك الناس لبعضهم كل هذا القتل والخراب الموحش؟!

مُخيف ما جرى ويجري في حلب، وما يخيف أكثر، هو ردود أفعال العالم، العالم أجمع المتحضر والمتخلّف! وكم يبدو السؤال مزلزلاً حين يسأل الواحد فينا نفسه: ماذا لو حصل لنا ما حصل للحلبيين؟

العالم أجمع ينقل على لسان المذيعات الجميلات والمتمكيجات، والمذيعين الأكثر وسامةً وتمكيجاً مجازر حلب، ويتجاوزها لأخبار دوري كرة القدم الإسباني والدوري الإنكليزي، ثم يعرض حركة أهم عشرة أفلام هوليوودية أمام شباك التذاكر، وأخيراً يقدم دعاية لشركة طيران تدلل ركابها. كل هذا صار يبدو عادياً، لكن ما يبدو نشازاً هو هذا الصمت الذي تغط به النخب الثقافية والفنية العربية والعالمية، المؤسسات والاتحادات وجمعيات النفع العام ومؤسسات المجتمع المدني!

نعم، نعيش ثقافة جديدة، ثقافة لا تقيم وزناً حتى للموت! إنها ثقافة التوحش!