كلمة "ثائر" بالنسبة لي ليست مجرد مفردة أو صفة تطلق على شخص يعارض واقعا لا يرتضيه. لهذه الكلمة في داخلي عمق أبعد من ذلك، بُعدٌ معنوي وفلسفي وأخلاقي، ربما ساهم في تكوينه القراءات والحكايات التي تُروى عن مثل هؤلاء الأشخاص، ابتداء من الأنبياء الثائرين بأمر ربهم لتغيير واقع الناس، ومرورا بالشخصيات البشرية العادية الواقعية أو الأسطورية التي نسجها الخيال البشري، كصعاليك العرب وروبن هود، أو عمر المختار وسبارتاكوس وشخصيات أخرى كثيرة شكّلت أغلب أجزاء ملامح "الثائر" في الوجدان.

إلا أن ما يثير ريبتي، أن تلك الملامح لا تنطبق على أي من ثوار اليوم، إنهم ليسوا بنفس المقاس، ولا بذات الوسامة، ولا تمتلئ جيوب الأحاديث عنهم بحلوى القيم، ولا تحمل تقاطيع وجوههم هيبة رأي، إنما يسكن تلك التقاطيع التيه.

Ad

ثوار الأمس كانت حبالهم الصوتية مغزولة من صوت آمال الناس، كانوا أكثر جمالاً من هؤلاء الذين يوقعون "الأوتوغرافات" باسم الشعوب اليوم، كان الثائرون على الاستبداد والظلم والمناصرون للإنسانية وكرامة الإنسان يحملون كاريزما الأبطال، كانوا نجوماً وفرساناً ونبلاء مُلهَمين – بفتح الهاء- ومُلهِمين – بكسر الهاء- ويحيط سيَرهم كثير من عبق الرومانسية، سواء من اتخذ منهم البندقية درباً لتحقيق غايته، أو الذي اختار درب الورد، وليس ابتداء من غاندي ولا انتهاء بجيفارا، كل الذين كانوا يناضلون من أجل الناس لم تخلُ الأحاديث عنهم من شيء من الرومانسية، وربما هذه أكثر ما تفتقده سير ثوار اليوم. مناضلو الأمس كانوا يزيحون كسوة الظلام عن وجه الشمس ليراها الناس، فيسهل عليهم اليقين، إنهم بذلك يساعدون الناس في التصالح مع خياراتهم، أليست تلك قمة الرومانسية الواقعية؟!

إنهم يضيئون في الذات قنديل قناعة، فتتحلق تفاصيل الحياة اليومية حول ذلك القنديل المضيء، ما يعزز الحياة في الروح، ويقود ذلك القنديل المرء إلى حيث وجهته، متجاوزاً دروب الحياة المتشابكة حد الضياع، أليس ذلك رومانسياً؟!

ثوار الأمس نضالهم صورة فوتوغرافية بالألوان للخير، في مقابل الشر، وللرائي أن يحدد موقعه في الصورة بكل يسر. أما ثوار اليوم، على اختلاف أصنافهم، فيتهافتون لسرقة الشمس وإخفائها في خزائنهم السرية، حتى لا يبصر اليقين أحدا سواهم، يضيقون مساحة الخيارات، إذ لا يعود الاختيار بين الخير والشر، إنما بين الشر وشر سواه، وليس الاختيار بين العدل والظلم، بل بين الظلم وظلم له وجه مختلف.

ثوار اليوم لا يحاولون فتح أبواب الحرية، إنما يحاولون استبدال الأقفال، ما يجعل المرء في شك من موقفه وريبة من يقينه، ويشطره إلى نصفين. لم يكن ثوار الأمس ليفعلوا ذلك، كانوا أكثر رأفة بمتابعيهم وغير متابعيهم، أحلامهم كانت سماء تمتد لتغطي أقدام أوطانهم، فيما أحلام ثوار اليوم رداء لا يزيد مقدار أصبع عن أقدام الجماعات التي ينتمون إليها ومن اتبعهم. ثوار الأمس كانت غايتهم أن يكون الوطن للناس، ثوار اليوم غايتهم أن يمتلكوا الوطن والناس!

ثوار اليوم أكثر شراً في نظري من الشر الذي يثورون ضده.