«مساكين يعملون في البحر»...

صيادون مُسنُّون يتأمّلون أحزان الترحال

نشر في 22-12-2016
آخر تحديث 22-12-2016 | 00:00
No Image Caption
أصدرت «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في مصر ديواناً جديداً بعنوان «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبدالرحمن مقلد، الفائز أخيراً بالجائزة الأولى في مسابقة الشعر العربي عن المركز الثقافي المصري في باريس.
في ديوان «مساكين يعملون في البحر» مجموعة قصائد متنوعة بين الطويلة والقصيرة، من بينها «يعملون في البحر، مثل فلاسفة قدماء، أنا مثلكم أتألم، الدم، عدوان، ثلاث وعشرون قاطرة، موعظة الرحلة، نوار يضيء ويختفي، أثر العابر».

في تصديره الديوان، كتب عبدالرحمن مقلد نقلاً عن يانيس ريتوس بترجمة الشاعر رفعت سلام: «صيادون عجائز/ لم يعد لديهم قوارب ولم يعد لديهم شباك/ يجلسون على الصخرة ويدخنون غلايينهم/ يتأملون أحزان الترحال والظل».

في الديوان الجديد لا يكفي الوقوف على الشاطئ لفهم البحر، تخدعنا لحظاتنا التي تدفعنا بقوة نحوه لننظر فحسب من البعيد على البعيد. هنا عادة ما نقف على الرمال الناعمة التي يبوح لها البحر بسره ويختفي ثم يعود ويرسل موجة أخرى بسر أخطر، ويختبئ ثم يعود، هنا ومن فوق الرمال الكاتمة للأسرار لا نجرؤ على التقدم بخطوة واحدة. هي الرمال تسحرنا وتقبض علينا وتحدد إقامتنا وتمنعنا بالقوة أحياناً. هي لا تسمح لأحد بالعبور على متن البحر إلا لنوعين من البشر أولهم المصطافون، والنوع الآخر «المساكين»... نعم المساكين الذين يعملون في البحر هم أيضاً حراسه الأوفياء وكتّام أسراره الذين يعيشون فيه ويعيش فيهم منذ البدء وإلى الأبد.

تقول الأسطورة إن البحر لا يضمن الشعراء ويخافهم، لذلك يخدعهم بغموضه وبراءته وغضبه وصمته الموحش أحياناً، مقلد يعرف ذلك جيداً، فذهب الشاعر بأوراقه وأقلامه مع الـ «مساكين» ليكتب شعراً عنهم وعن البحر. يقول في قصيدتة «يَعمَلُونَ فِي البَحرِ»:

في الحَقيقة

لم نَكْترِثْ للمُلوكِ

ولا للعَبيدِ

ونَعملُ في البَحرِ

مُنذُ قَديمٍ.....

ولا نتَمنَى نَهاراً يُضيءُ

ولا مَنزِلاً نَستَقرُ بِه

فالسَكِينةُ تَحمِلُنا

كلَّ لَيلٍ طَويلٍ إلى كَهفِنا

في البَياضِ

نجد في هذه الأبيات عالماً آخر نجهله ويجهلنا له خصوصيته البحرية وقاموس لغوي تشير مفرداته إلى تكوينات يمتزج فيها اللون بالمكان والوجود بالليل النهار، وتذوب المساحة بين اللغة والشعر، وتأتي الدفقة الشعرية التالية:

ومن حَظِّنا أنْ فقدْنَا خَيالاتِنا

عن نِسَاءٍ عَلى الشَطِّ

يصنعْنَ غَزْلاً جديداً لأنوالِهن

ويُبقينَ قُمصَانَنَا في الأَسِرَّةِ

تحْمِي رَوائِحَنا

لتتذوق المرارة التي تشعر بها الآن تقتحم حلقك، وتقلب عليك تاريخ الاغتراب رأساً على عقب، وتضع سنوات عمرك على المحك... فمن منا لم يأكل الاغتراب منه؟ وسحقه حتى تبقى منه قليلاً من رائحته؟ لكن المفارقة ما بين المساكين الذين يعملون في البحر، والمساكين الذين يعملون في الأرض ذكرها الشاعر عبد الرحمن مقلد حين قال: «ومن حَظِّنا أنْ فقدْنَا خَيالاتِنا» ناعمة، وكأنه أراد أن يحتفظ بالحقيقة لذاته الشاعرة».

وفي قصيدة «ثَلَاثٌ وعشرون قاطرةً»، يكتب الشاعر عبد الرحمن مقلد من البحر ناظراً إلى الوراء يستدعي خبراته الأرضية وأوجاعه الأرضية وتجاربه الأرضية العميقة، يكتشف تفاصيله بكتابة الشعر، ورغم أنه ما زال يشتم الهواء القديم «الأرضي»، لكنه بالشعر يعترف بالضعف والقوة فتخرج قصيدته التي يقول في أولها:

تَحمَّلتُ ضَعفي وغادرتُ هَذا الهَواءَ

كَرهتُ طمأنينةً في عُيونِ بَنِيه

فلا أَتحَملُ ضِيقَ المَكَانِ

ولا حِرفيةَ بَاعُوضِه في اخَتبارِ دَمي

وكَرهتُ مُعاملةَ النَاسِ لِي..

بتراكم هائل من الدلالات التي تحاصر الإنسان المعاصر، والتي تخلق من الموجودات الجحيم، وتنتج من الاتساع الضيق، وتصنع سوائل الفزع من الطمأنينة، ذلك الواقع الذي يفرز كثيراً من الاعترافات ويسمح للبوح بأن يتسلق القلم في تلك الحالة يكمل القصيدة الشاعر بقوله:

تَعبتُ من الحَدقَاتِ التي تَتوجَّهُ نَحوي

تَعبتُ مِن اليَرَقاتِ تَضيقُ عَليَّ

وأذكرُ أني الوَحيدُ

الذي غَادرَ المُدنَ السَاحِليةَ للبَحرِ

قبلَ انتِشَارِ الطَاعُونِ بِها

أَهْلُها طَاردُوني فغَادرتُها

من ثَلاثٍ وعِشرينَ قَاطِرةً

ورَجعْتُ بذَاكرةٍ عَذبةٍ

تَعلّمتُ أن أَخْتَفِي لأَبِينَ

وأن أَتمشَى لأسرعَ

أن أرتخي لأُحِسَّ بسُرعةِ نَبضِي

وأن أُشبهَ البَبَّغاءَ..».

يفيض ديوان «مساكين يعملون في البحر» بصور شعرية تكتمل مع تجاربنا الخاصة، وتلتئم القصائد مع تفاصيل إنسانية عدة بدأت من القديم وتمتد إلينا وتتشابك بأوصال العصر لتعكس على مرآة الزمان صورة إنسان المستقبل الذي لا يختلف عنا كثيراً، سيقف يتأمل البحر من البعيد لينظر إلى البعيد، على رماله الناعمة كاتمة الأسرار ليختار إما أن يكون مصطافاً أو يختار أن يكون من «مساكين يعملون في البحر».

back to top