د. الدويش وقبور الصِّبّية الأثرية (4-4)
من الأسئلة الكثيرة التي تثيرها قبور الصبية لماذا اختار أهلها بناء مقابرهم على المرتفعات؟، ويجيب د. الدويش بأن ذلك جاء «لإظهارها كمعالم بارزة وحمايتها عند هطول الأمطار وتدفقها، كما هدفوا إلى سمو مكانة أصحابها ورقي أرواحهم إلى الأعلى من خلال اختيار الأماكن العالية».
اهتم سكان ما قبل التاريخ بمكانتهم بعد وفاتهم، كما هو الحال في مختلف الأزمنة وفي ثقافات عديدة، فالمقابر، يقول أحد الباحثين، تكشف عن المكانة الاجتماعية للمتوفى، "ومن ثم يمكن التعرف على دفنات البسطاء العامة أو من الطبقات الأعلى أو الحكام".ويقول د. سلطان الدويش إن طرق الدفن القديم في أرض الصبية كانت ثلاثة أشكال، وفقاً لما تدل عليه الهياكل، منها أحياناً الدفن الجماعي، وإن كان الدفن الفردي أو المزدوج أكثر انتشاراً.وتثير قبور الصبية أسئلة كثيرة؛ فلماذا اختار أهلها بناء مقابرهم على المرتفعات؟ ويفسر د. الدويش السبب، "لإظهارها كمعالم بارزة وحمايتها عند هطول الأمطار وتدفقها، كما هدفوا إلى سمو مكانة أصحابها ورقي أرواحهم إلى الأعلى من خلال اختيار الأماكن العالية".
وقد وُجِدت هياكل في وضع القرفصاء وأخرى بطريقة الثني. وكان اتجاه الدفن غالباً شرق- غرب، وربما اختلف ذلك بعض الشيء بسبب اختلاف مطالع الشمس وغروبها، صيفاً وشتاء.ويتحدث الفصل الخامس من كتاب د. الدويش عن المكتشفات الأثرية والهياكل العظمية التي توصل إليها فريق العمل من خلال دراسة المكتشفات التي تنتمي إلى مراحل مختلفة.يقول الباحث: "يتنوع الأثاث الجنائزي في مقابر الصبية، فهناك الفخار والأصداف البحرية، والأحجار الكريمة والعادية والمعادن، أما استخداماتها فهي للزينة والاستخدام الآدمي، ولا شك أن الكثير من هذه المكتشفات له قيمة مكانية كبيرة، وبخاصة الأحجار مثل اللازورد واللولؤ، والفضة والبرونز والفخار وأدوات الزينة التي وجدت في المقابر، والتي تعود في الغالب إلى شخص الميت، وربما أنهم وضعوها لاعتقادهم أن الميت سوف يحتاجها في الحياة الأبدية. وربما كان الأحياء تخلصوا منها بهذه الطريقة، لأنها تتبع لشخص الميت" (مقابر مدينة الصبية، ص223).ويضيف الباحث أن المعثورات الفخارية قليلة في مقابر الصبية، وهناك الكثير من كسر الفخار، وقد عثر في مقابر كاظمة على تعويذة من المحار وحيدة في القبر، في حين نُهِبت محتويات قبور الصبية، وقد وجدت عظام بعض الحيوانات في مقابر الصبية، ومنها عظام البقر والحصان والأرنب.وفي أحد القبور الغنية في الصبية، كانت الحصيلة النهائية 600 خرزة من الأحجار الكريمة والأصداف البحرية وخرز اللازورد، أما عن العظام والبقايا البشرية فقد تمت في بعض المناطق دراسة بقايا 18 شخصاً عثر على هياكلهم في ست مقابر، وكانت العظام والأسنان متآكلة بشدة، وأربع مقابر فقط هي التي كانت تحتوي على هياكل عظمية كاملة تقريباً، وفي "ردحة الصبية" وُجِدت بقايا محفوظة بشكل جيد لثلاثة أشخاص، وكانت هناك جمجمة واحدة كاملة، وجزء من جمجمة ثانية، وبضع شظايا من جمجمة ثالثة، وفي معظم الحالات كان من المستحيل التمييز بين الأشخاص الثلاثة. وينتقل د. الدويش إلى بحث "الجانب المهني" لأصحاب الهياكل، ويتساءل: "السؤال الرئيسي الذي يمكن تناوله في سياق البقايا البشرية هو طبيعة أعمال سكان المنطقة، ويستحيل تقديم الإجابة النهائية بالفعل، قائلين إن كان الأشخاص المدفونون في الصبية وفي الخويسات فلاحين أم رعاة أم صيادين، لكن يمكن برغم ذلك تحديد بعض الفرضيات، وقد لاحظ الباحثون السابقون وجود اختلاف حاد في معدل تكرار تسوس الأسنان في مجتمعات السكان في شبة الجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ، مع وجود مواقع ذات معدل منخفض للغاية، كما في موقع رأس الحمراء الذي يعود إلى العصرالحجري الوسيط، وموقع أم النار الذي يعود إلى العصر البرونزي، أو المواقع التي تعود إلى العصر الحديدي في البحرين، بينما نجد هذا المعدل مرتفعاً للغاية في مواقع أخرى، كما في موقع جانوسان الذي يعود إلى العصر البرونزي، وواحة صمد التي تعود إلى العصر التاريخي، ومواقع عديدة في البحرين".وتدل دراسة عظام الكاحل على جوانب أخرى، يقول د. الدويش: "لاحظنا سمات أخرى في الهياكل التي تم العثور عليها في الصبية والخويسات، منها أن معدل التكرار العالي لأسطح القواطع المنفصلة في عظم الكاحل أعلى بكثير من نظيره في المجتمعات القروية في شمال شرقي سورية، ومع أن العينة صغيرة للغاية إلى درجة لا يمكن معها الخروج بالخلاصة النهائية، فإنه مع وجود عينة أكبر من الهياكل العظمية وملاحظة المزيد من السمات غير المتعلقة بالقياسات سيكون من الممكن أن نتأكد من وجود تشابه بين سكان الكويت في عصور ما قبل التاريخ، وبين فلاحي بلاد ما بين النهرين الأقدمين". (ص269)ويختتم د. الدويش رسالته بعقد مقارنة خليجية حول المواقع والمقابر المماثلة في دول مجلس التعاون، مقارنة بمقابر الصبية، ومنها "مقابر جبل حفيت" في دولة الإمارات العربية المتحدة التي بدئت أعمال التنقيب فيها عام 1970، وتعد الأقرب إلى مقابر الصبية من حيث الشكل الخارجي وتصميم غرف الدفن، وعدم استخدام مادة رابطة بين حجارة البناء. ويضيف الباحث أنه لا توجد مستوطنات في الإمارات والصبية تنتمي إلى هذه المقابر، رغم الجهود المبذولة من الدولتين- دولة الإمارات ودولة الكويت- مما يوحي أن من بنى هذه المقابر ربما من البدو الرحل" (ص286).ومن المقابر المماثلة "مقابر أم بقيق" شرقي المملكة العربية السعودية، "وهي عبارة عن تلال حجرية تتخللها الأتربة التي تراكمت عليها بفعل الرياح، وترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وتتشابه مع مقابر عمان".ومن المقابر المماثلة مدافن في وسط الجزيرة العربية، ومنها مجاميع حجرية ظاهرة تنتشر بالقرب من مدينة الرياض وتتنوع، فهناك الدوائر الحجرية والمستطيلة والمذيلة، وقد اختلف حول وجودها على مرتفعات العديد من الأثريين والمؤرخين السعوديين، ونشرت الصحف تحليلاتهم المتنوعة.ومن المقابر كذلك "مقابر مدينة حمد" في مملكة البحرين، وأغلبها على شكل قبة منتظمة من الخارج تقريباً، بعضها على شكل قرص، وبعضها بيضاوي، وهناك "مقابر أم الماء" في قطر، ومقابر "طوى سليم" و"طوى سعيد" في سلطنة عمان، وبعضها يتشابه مع مقابر الصبية. ويقول د. الدويش مستنتجاً: "يظهر من نتائج الاستكشاف الأثرية أن الكويت من أقدم مناطق الشرق القديم التي استوطنها الإنسان، كما تدل الآثار المكتشفة في داخل الكويت وخارجها، وبخاصة في منطقة الصبية وأقطار الخليج العربي المجاورة وجنوب وادي الرافدين، على وجود تاريخ مميز للكويت في العصور البرونزية، يناظر الحضارات المعاصرة في المنطقة".بذل د. سلطان الدويش، والفريق العامل معه والمجلس الوطني للثقافة والباحثون، من خليجيين وعرب وأوربيين، جهداً ملموساً في جمع وتحليل المادة العلمية للكتاب، ولا شك أن الأسئلة التي يثيرها كتاب د. الدويش عن "مقابر مدينة الصبية" أعقد من أن نتوصل إلى أي جواب شامل لها.غير أن الباحث ومن معه قد وضعوا أسساً راسخة لأية بحوث لاحقة في هذا الحقل، ويكفي مثل هذا الإنجاز أي باحث.بقي أن نشكر مركز البحوث والدراسات الكويتية على الاهتمام بطباعة الكتاب، وإبراز الخرائط والصور بشكل متقن، مما يساهم، بلا شك، في إقبال الجهات العلمية على الاستفادة منه، وكذلك بالطبع، من يهتم بتاريخ المنطقة الخليجية وآثارها.