أنت شاعرة وأديبة وباحثة، هل ثمة علاقة بين هذه الأصناف وبين شخصيتك، بمعنى هل تجدين نفسك فيها كلها؟
في البداية أنا شاعرة لأنني أتحدث بلغة الروح، وعندما تتحدث لغة الروح فينا ندخل عوالم الشعر. أما أن أكون أديبة، فالأدب يعكس البيئة التي يعيش فيها الأديب، ويضيف إليها ما يختلج في ذاته من تفاعلات تنشأ بسبب الظروف المحيطة بأبعادها النفسية والاجتماعية والثقافية. الأديب يتفاعل، في المرتبة الأولى، مع مجتمعه ليكتب الأدب الملتزم أو الأدب الحر، وهو في الأحوال كافة ابن المجتمع والبيئة. أما البحث فيفرض منهجية معينة ترتبط بالمنطق والتسلسل مثل الاستقراء والاستنباط، ويحتاج إلى كثير من الموضوعية وإلى روح علمية عالية المستوى. وأنا أيضاً باحثة بحكم أنني أجريت أبحاثاً أكاديمية وأخرى مستقلة ما بعد مرحلة التعليم الأكاديمي أو الجامعي. أجد نفسي في كل واحد من هذه الأصناف، أي أنني شاعرة وأديبة وباحثة لأن هذه التناقضات موجودة في داخلي، فأنا حالمة بالدرجة الأولى، ومتفاعلة مع بيئتي بالدرجة الثانية، وأملك ما يكفي من الثقافة ومن المعلومات ما يؤهلني للبحث في أي موضوع أريده، فضلاً عن أنني تعلّمت الأساليب المنهجية في الجامعة وأتقنتها. لماذا اخترت خليل حاوي ليكون محور كتابك «التناص وقراءة النص الغائب في شعر خليل حاوي... من، نهر الرماد، إلى، بيادر الجوع» وما هو موقعه الفكري، خصوصاً أنه عاش في عصر التحولات الكبرى في المنطقة العربية وبروز القوميات والإيديولوجيات؟قصتي مع خليل حاوي غريبة، لم أتأثر بشعره فحسب، إنما بشخصيته النادرة، لامتلاكه الاندفاع والعصامية والجنون والرقي والثقافة. لم يكن شاعراً عادياً، بل كان مثقفاً من الطراز الأول، وساهم في تحولات كثيرة بشعره وبحضوره. ذلك كله حفزني لتأليف هذا الكتاب، فضلاً عن ارتباطه بصدق بالثقافتين العربية والغربية اللتين اكتسبهما من خلال قراءاته ودراساته. ما الذي استهواه في كل منهما؟في الثقافة الشرقية تأثر بالكتب الدينية: الإنجيل والتوراة والقرآن، وذكر الكثير من الشخصيات الدينية في شعره أمثال المسيح، وخضر، كذلك طوفان نوح في التوراة الذي يتكرر في كتاباته، فضلاً عن لعازر وغيره... لم يترك رمزاً أساسياً مهماً من رموز الانبعاث والكفاح إلا وذكره. أيضاً تأثر بـ «ألف ليلة وليلة»، وقد أشرت إلى أن هذا الكتاب ليس عربياً مئة بالمئة، بل مزيج من الحضارتين الفارسية والهندية، قد إضاف إليه العرب الكثير من الأمور. كذلك تأثر بشخصية السندباد وذكرها في معظم كتاباته. في ما يتعلق بالثقافة الغربية، تأثر بالفكر الإغريقي لا سيما أوليس الإغريقي، وبالفكر الأوروبي، من خلال ت. س. إليوت وألدوس هكسلي. كيف ترجم تأثره بهما في كتاباته؟ظهر تأثره بـ ت. سي. إليوت من خلال قصيدة «الأرض الخراب»، كون الأرض الخراب تعبّر بطريقة صادقة وصارخة عن واقع أي حضارات تعاني خطر الاندثار، مثل الحضارة العربية التي تواجه خطراً محدقاً، وهذا الخطر لن يزول، في نظر حاوي، إلا من خلال عودة الكأس المقدسة التي ذكرها ت. س. إليوت في قصيدته، لتنعش الأرض وتعيد الحياة. تتألف قصيدة «الأرض الخراب» من 433 بيتاً وهوامش أشار فيها إليوت إلى المصادر التي استقى منها أفكاره. تتحدث الأسطورة عن أرض خربت وانحبست فيها المياه بسبب اختفاء الكأس المقدسة التي شرب المسيح بها ليلة العشاء السري، لأن حراسها لم يكونوا أطهاراً، وحل العقم بالأرض وبالملك تايروس، وهو ملك صياد، فكان على الفارس بارسيفال، أطهر فرسان الطاولة المستديرة، أن يقوم برحلة إلى الكنيسة الخطرة حيث يجب أن يقاوم كل إغراءات الشيطان لتظهر له الكأس فيعود بها إلى الأرض ويرفع عنها اللعنة. أثارت هذه القصيدة في نفس حاوي رغبة في استنهاض الحضارة العربية وفي إعادة الخصب. أما في ما خص هكسلي، فرأى الغرب من منظار اعتناقه العلم حتى الإلحاد والكفر، وحذّر من هذه الظاهرة.ما هي نقاط التلاقي بينهما وبين خليل حاوي؟لا شك في أن تأثر خليل حاوي بأليوت تمازج بتأثرة بهكسلي، ويمكن ربط هذين التأثيرين معاً ليشكلا تأثيراً متكاملاً، لأن الرجلين يتلاقيان في الموقف الحضاري، فكلاهما يريان أن العلم لم يحقق طموحات البشر، وهذا موقف حاوي أيضاً، وكلاهما يعتقدان بأن الحضارة الغربية في طور الاحتضار والسقوط، وهو ما عبّر عنه حاوي، لكنه نقل رؤياه إلى الحضارة المشرقية العربية ليصف تفككها في ضباب ما هو مستورد من غير ذاتها وأصالتها. مثلاً، في قصيدته «المجوس في أوروبا» يقول: اخلعوا هذه الوجوه المستعارة/ سلخت من جلد حرباء كريه/ نحن لم نخلع ولم نلبس وجوه/ نحن في بيروت مأساة ولدنا/ بوجوه وعقول مستعارة/ تولد الفكرة في السوق بغياً / ثم تقضي العمر لفق في البكارة. هنا تتمثل قمة الحضارة المستوردة التي رآها حاوي مدمّرة للهوية. إنما لا يعني ذلك أن الرجل يعادي الحضارة ويدعو إلى البداوة، بل يطرح التمسك بالأصالة للدخول في الحضارة، خوفاً من أن نفقد هويتنا وكياننا فنذوب في سوانا، لذا كان صراعه مع المسترفَد الذي يؤخذ كما هو من غير أن يغربل، فقرر أن يحذف منه ما لا يناسب هذه الذات العربية ويبقي منه المناسب. كذلك تأثر حاوي بالآلهة الفنيقية، خصوصاً بعل وتموز، واعتبر أنهما يمثلان غلبة الانبعاث والاتجاه نحو الخصب، يقول في إحدى قصائده: «شهوة للشمس للغيث المغني/ للبذار الحي، للغلة في قبو ودلٍ/ للإله بعل تموز الحصيد». في التوراة تأثر بسادوم وعامورة ، داعياً من خلالهما إلى حرق كل ما يثقل كاهل الأصالة العربية وتنقية الحضارة من هذا الزغل ومن هذه الآثار التي تعيق الإنسان العربي عن التقدم.
همسات الشعر
ما الذي جذبك إلى الشعر ودفعك إلى كتابة باكورتك «همسات»؟الشعر هو كلام الروح، طبعاً هو تجذيب العقل ولكن عندما تتحدث الروح يتواصل العقل الباطني مع العقل الواعي ونفيض، هكذا أفاض مني كتاب «همسات» في 2007 وكنت صغيرة يومها، وفي حفلة توقيعه علق أحد الذين يشاركون في الندوة بأن لغة الديوان ناضجة وأرستقراطية.هل شعرك نتاج تجاربك ومشاعرك الخاصة أم مرآة تعكس صوراً من المجتمع؟في بعض الأحيان أعكس صور المجتمع ولكن ليس تحت شعار المحاكاة، قد أتأثر بشيء ما وأكتب. ولكن أكتب في الدرجة الأولى لأعبر عن تجاربي ومشاعري الخاصة، وهذا برأيي الهدف الأساس من الفنون عموماً ومن الكتابة خصوصاً، سواء الشعر أو الأدب. متى بدأت تشعرين بنمو ملكة الكتابة في داخلك؟منذ صغري شعرت بحاجة إلى الكتابة، وقرأت كتباً أكبر من عمري، مثلاً «رؤيا يوحنا» مع أنني كنت صغيرة جداً كي أفهمها، وكتباً حول الديانة الهندوسية والتقمص... فشعرت بنمو ملكة الكتابة لدي منذ نعومة أظفاري..المرأة والمجتمعأي امرأة تعكسين في شعرك؟أعكس صورة المرأة التي أحلم بها، المرأة المتمردة على الظلم، والعادلة، والأم الواعية في تربية أطفالها لا سيما الذكور، لأنني لا ألوم الرجل على التفكير الذكوري الذي يحمله بل ألوم الأم التي ربّته، ولا ألوم الزوج على تماديه إنما ألوم الزوجة التي سمحت له بهذا التمادي. أنا لست مع إلغاء دور الرجل مطلقاً، لكن أريد للمرأة أن تكون هي هي بكل تناقضاتها، وبوجودها بكامل إشراقها. لا أطالب حتى بالمساواة لأننا حين نطالب بها فنحن نعتبر أن المرأة تساوي الرجل وهذا خطأ، المرأة تشبهه إنما هي كائن مختلف. إنها البحر، الرحم... هي الأساس، هي التي تحضن وتعطي الحياة، لا حياة بلا وجود امرأة.ما المطلوب منها إذاً؟أن تنتبه إلى دورها وأن تدرك مسؤولية أن تكون وكيف عليها أن تكون، فالخنوع جريمة بحق نفسها بالدرجة الأولى ثم بحق المجتمع، لأن هذا الخنوع ينتج أطفالا يعانون أمراضاً نفسية ويصنع ذكوراً لا رجالا، وإذا أردنا أن يكون لدينا رجالات في المجتمع يحترمون المرأة ويقدّرونها، فلنبدأ بها أولا. أنا مع أن تعمل وتدرس وأن تتطوّر وأن تتحمل مسؤوليتها بوعي وبمقدرة. لا أؤمن بتلك التي تجلس في المنزل وتنتظر زوجها أن يساعدها ويطعمها ويلبسها. أين موقع الأدباء الشباب في الحياة الثقافية العربية اليوم؟ للأسف، نحن اليوم أمام معضلة مخيفة وهي أن معظم الشباب لا يملك الحد الأدنى من الثقافة. لن يكون الأديب منتجاً ومميزاً وخالداً في المرحلة المقبلة إلا إذا تمتع بثقافة، والثقافة لا تأتي عبر اجترار ما قاله الآخرون أو عبر تكرار ما قيل سابقاً، بل عبر هضم التراث الإنساني عموماً، العالمي والغربي والعربي، وما تتضمن كل هذه الثقافات... كل هذه العوامل مجتمعة تنتج أديباً.يعاني الأدباء الشباب ترهلاً فكرياً، وهذا أمر صعب ومدمر في الحضارة العربية، علينا أن نوقظ هؤلاء وأن نوجه طلابنا في المدارس وفي الجامعات نحو الثقافة بالدرجة الأولى، لأن العلم هو تحصيل حاصل، لكن الثقافة هي عمل فردي دؤوب، يدفع حب الاستكشاف والرغبة إلى مزيد من المعرفة، وكما قيل: أولى درجات المعرفة هي أن نعرف أننا لا نعرف شيئاً. جرأة وابتذاليكثر الحديث اليوم عن الكتابة الجريئة للمرأة الأديبة والشاعرة، فما هو مفهوم الجرأة في الكتابة برأي د. نادين طربيه حشاش؟ تجيب: لا أؤمن بالابتذال أو بالسطحية أو بالإباحية في الكتابة، فبعض النساء الشاعرات والأديبات يتقصّد استخدام ألفاظ معيبة وجنسية كي يلفت النظر، لكنني أفضل الإيحاء والتضمين، وهي طريقة راقية وتتمتع بأبعاد مميزة. تردد فيروز في إحدى أغنياتها: «سهار بعد سهار تا يحرز المشوار/ كتار هون زوار/ شوي بيفلوا وعنا الحلا كلو»... تعكس في هذه الأغنية التعبير عن الرغبات التي يمكن لامرأة أن تقولها للرجل لكن بطريقة راقية. أريد من المرأة أن تكون راقية حتى في تعبيرها عن أكثر الأمور تفاهة أو جرأة. الجرأة لا تعني الوقاحة، ووظيفة الشعر والفنون، ليس نقل الواقع كما هو بوقاحته، إنما حمله إلى سماء، إلى ارتفاع، إلى سموّ، إلى تغيير الواقع بطريقة لا تؤثر في جوهره بل في طريقة عرضه، كي لا يخدش الحياء، ولا يوقظ مكامن غرائزية.