للشجعان فقط
"أريد أن أصبح طبيباً!"، "وأنا أريد أن أكون مهندساً"، "أما أنا فسأصبح شرطياً عندما أكبر!".عبارات سمعتها من أطفال لا يتجاوزون السابعة على أكثر تقدير. وفي حين أن أغلب الكبار "الراشدين" يفرحون بسماع مثل هذه الأماني البريئة، ويشعرون بالفخر، أشعر أنا بالحزن على أرواح صغيرة لوثتها أيدي الإشراط الاجتماعي، وأثقلتها توقعاته باكراً. أشعر بالأسى على أرواح لن تكتشف حقيقة وجودها وبواطن كنوزها، بل ستكتفي بسلك الطريق الأسهل، وهو درب القبول الاجتماعي، فتجتنب بذلك الكثير من الأذى المقرون بكون المرء متفرداً وسط منظومة تهاجم كل من كان مختلفاً. أشعر بخيبة الأمل عندما أتذكر أن تلك الأرواح، كملايين أخرى غيرها، ستهمش رغباتها وشغفها، ذلك الشغف الذي يوقظك باكراً وينيمك متأخراً كي تكتب شطراً أو ترسم قمراً، سيختزل ويُحجّم فيصبح مجرد "هواية" تملأ وقت الفراغ، ذلك الفراغ العدمي الذي ننتهي إليه بعد حياة "آمنة" قنوعة خالية من المجازفات واكتشاف الذات، ونسعى فيها لإرضاء الجميع، الجميع إلا أنفسنا. ذلك الفراغ نفسه الذي نهرب منه هروبنا من الجذام إلى شاشاتنا الصغيرة التي تقتحم كل لحظة صمت وتقتل كل خلوة ممكن أن تصحو فيها عقولنا الخاملة محملة بتلك الأسئلة الوجودية التي لا نجرؤ على طرحها. نعم! فتلك الأسئلة خطيرة جداً، ويجب أن يتم وأدها، وإلا فستقلب حياتنا رأساً على عقب، بدءاً من اختيار تخصص دراسي ووظيفي يناسبنا بدل أن يناسب توقعات العائلة والمجتمع، واختيار شريك حياتنا، ومكان السكن والمعيشة في أرض الله الواسعة، وانتهاءً بتفاصيل صغيرة وأقل تعقيداً كاختيار الملابس وتكوين ذوق متفرد، لكن تلك الأسئلة للشجعان فقط، ولمن يجرؤ على عيش حياة حقيقية وأصيلة. طموحات زائفة بنكهة البلاستيك أطعمونا إياها منذ الصغر، فصار جل اهتمامنا حصد الألقاب (طبيب، مهندس، دكتور، شرطي، شهادة ماسترز) لا لطلب العلم أو المنفعة العامة، بل للحصول على مكانة اجتماعية أو سلطة من نوع ما تشبع غرورنا.
يا أيها الناس! دعوا المختلف وشأنه.