زلزالان سياسيان شهدهما عام 2016، تمثل أولهما في انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، والآخر انتصار "البريكست" في المملكة المتحدة، وقد جاءا تعبيراً عن فشل النخب في فهم الاستياء الذي يعكر الجو السياسي للديمقراطيات في مختلف أنحاء العالم. وتميزت الانتفاضة الشعبوية برفض النهج التكنوقراطي الذي لم يستطع فهم استياء الناخبين الذين يشعرون بأنه تم التخلي عنهم من قبل الاقتصاد والثقافة.

وصف البعض الشعبوية بأنها أخطر من العنصرية، وهي رد فعل كاره للأجانب وضد المهاجرين والتعددية الثقافية، وينظر إليها الآخرون على أنها احتجاج على فقدان فرص العمل الناجمة عن التجارة العالمية والتكنولوجيات الجديدة، لكن ملاحظة التعصب في الاحتجاج الشعبوي، ورؤية هذا الاحتجاج من الناحية الاقتصادية فقط، تفتقدان حقيقة أن ثورات عام 2016 نبعت من عدم قدرة المؤسسة على معالجة المظالم الحقيقية، أو حتى الاعتراف بشكل كافٍ، بوجودها.

Ad

الشعبوية الصاعدة اليوم هي تمرد ضد أطراف المؤسسة عموماً، لكنها أضعفت أحزاب يسار الوسط بشكل كبير، وهذا خطأ أساسي ارتكبَه هذا اليسار، ففي الولايات المتحدة، احتضن الحزب الديمقراطي ليبرالية تكنوقراطية ملائِمة للفئات المهنية أكثر من ناخبي الطبقتين العاملة والمتوسطة اللتين كانتا تشكلان قاعدته الأساسية في السابق، كما يواجه حزب العمال البريطاني مأزقاً مماثلاً.

قبل أن تأمل استعادة تأييد الرأي العام، على الأحزاب التقدمية إعادة التفكير في مهمتها وأهدافها، وللقيام بذلك، عليها أن تتعلم من الاحتجاج الشعبوي الذي أزاحها، لا عن طريق محاكاة كراهية الأجانب والقومية الحادة، لكن من خلال التعامل بجدية مع المظالم المشروعة التي ترتبط بهذه المشاعر، وهذا يعني الاعتراف بأن المظالم تهم النظرة الاجتماعية، لا الأجور والوظائف فقط.

وينبغي على الأحزاب التقدمية معالجة أربع قضايا رئيسية، أولاها عدم المساواة في الدخل، عبر زيادة تكافؤ الفرص وإعادة تأهيل العمال، وتحسين فرص الحصول على التعليم العالي، ومكافحة التمييز، هذا هو الوعد المتعلق بنظام "الجدارة والاستحقاق" أو ما يمكن أن يطلق عليه "الجديروقراطية"، التي تعني أن من يعمل بجد وفقاً للقواعد ينجح، وعليه أن يكون قادراً على الارتفاع بقدر ما تأخذه مواهبه.

لكن بالنسبة إلى الكثيرين، هذا الوعد ليس مُجدياً، فحتى في الولايات المتحدة، مع الحلم الأميركي الذي طال انتظاره، أولئك الذين وُلِدوا من آباء فقراء سيبقون فقراء حتى عندما يصبحون بالغين، أما أولئك الذين وُلِدوا في الخُمُس الأدنى من سلم الدخل، فسيتخطى 43 في المئة منهم مكانهم، وسيبلغ 4 في المئة فقط قمة الخُمُس.

على التقدميين إعادة النظر في الاعتقاد بأن الحراك الاجتماعي هو الحل لعدم المساواة، ويجب أن يعالجوا مباشرة هذه المسألة، من دون البقاء راضين بالجهود الرامية إلى مساعدة الناس في تسلق السُّلم الاجتماعي الذي تزيد الهوة بين درجاته أكثر فأكثر.

القضية الثانية هي غطرسة "الجديروقراطية"، والتي تعد مشكلة تزداد تعقيداً، فالتركيز المستمر على السعي وراء استحقاق عادل، اعتماداً على المواهب والمهارات والجهود المبذولة، له تأثير أخلاقي سيئ على الطريقة التي نفسر من خلالها النجاح (أو عدمه)، فالنظام الذي يكافئ المواهب والعمل الجاد يشجع الفائزين على الاعتقاد بأن نجاحهم هو ثمرة عملهم، ونتيجة اجتهادهم الشخصي، وبذلك يحتقرون من هم أقل حظاً.

قد يدعي الخاسرون أنه تم التلاعب بالنظام، وقد يتذمرون بسبب اعتقادهم أنهم مسؤولون وحدهم عن فشلهم، وعندما تتراكم هذه المشاعر فإنها تُسفر عن غضب واستياء عميقين، وقد فهم ترامب هذا الشعور واستغله، رغم أنه ملياردير. وبينما تحدث باراك أوباما وهيلاري كلينتون باستمرار عن الفرص، قال ترامب كلاماً فظاً عن الفائزين والخاسرين.

ويجد الديمقراطيون، أمثال أوباما وكلينتون، صعوبة في فهم الغطرسة التي يمكن أن تولدها "الجديروقراطية"، والحكم القاسي الذي يُوجه إلى من لا يحمل شهادة جامعية، ولهذا نجد أن واحداً من أعمق الانقسامات في السياسة الأميركية اليوم هو بين الحائزين شهادة تعليم عالٍ وغير الحائزين.

والقضية الثالثة تتمثل في "كرامة العمل"، إذ تزامن فقدان الوظائف بسبب التكنولوجيا والاستعانة بمصادر خارجية مع الشعور بأن المجتمع يقلل احترام مِهن الطبقة العاملة، كما تحول النشاط الاقتصادي من إنتاج أو صنع أشياء إلى إدارة الأموال، ومع حصول مديري الصناديق المالية والمصرفيين في "وول ستريت" على مكافآت ضخمة، أصبح احترام العمل بالمعنى التقليدي هشاً وغير مؤكد.

قد تجرف التكنولوجيا الجديدة كرامة العمل مستقبلاً، ويتوقع بعض المقاولين في "السليكون فالي" وقتاً تقوم فيه الروبوتات والذكاء الاصطناعي مقام فرص عمل اليوم، ولتمهيد السبيل لمثل هذا المستقبل، يقترحون دفع دخل أساسي للجميع.

وما كان ينظر إليه سابقاً على أنه بمنزلة شبكة أمان لجميع المواطنين، يُقَدم الآن كوسيلة للتخفيف من التحول إلى عالم دون عمل، فهل سيتم الترحيب بمثل هذا العالم أو مقاومته؟ هذا هو السؤال الذي سيشكل محوراً سياسياً في السنوات المقبلة، وللتفكير في الأمر، سيكون على الأحزاب السياسية شرح معنى العمل ومكانته لضمان العيش الكريم.

أما القضية الرابعة التي على الأحزاب التقدمية معالجتها فهي "القومية والمجتمع الوطني"، في وقت تشكل اتفاقيات التجارة الحرة والهجرة أقوى سبب للغضب الشعبي. ويقول معارضوها إنها تهدد فرص العمل والأجور المحلية، في حين يرى مؤيدوها أنها تساعد الاقتصاد على المدى الطويل، لكن العاطفة التي تحركها هذه القضايا توحي بأن شيئاً أكبر على المحك.

والعمال الذين يعتقدون أن بلادهم تهتم بالبضاعة والعمالة الرخيصة أكثر من حرصها على فرص العمل الخاصة بمواطنيها يشعرون بالخيانة، وهم كثيراً ما يعبرون عن ذلك بطرق بشعة، أبرزها كراهية المهاجرين، وتشويه سمعة المستغربين المسلمين وغيرهم من "الغرباء"، والمطالبة "باستعادة السيطرة على بلدهم".

ويرد الليبراليون بإدانة هذا الخطاب البغيض، مُصِرين على فضائل الاحترام المتبادل والتفاهم بين الثقافات المتعددة، لكن هذه الاستجابة المبدئية، على الرغم من صلاحيتها، فشلت في التصدي لبعض القضايا الكبيرة الكامنة في الشكاوى الشعبوية، فما هو المغزى الأخلاقي للحدود الوطنية؟ هل علينا أن نُدين لمواطنينا بجهود أكثر مما ندين لمواطني الدول الأخرى؟ في عصر العولمة، هل يجب تقوية التضامن الوطني أو التطلع إلى أخلاقيات عالمية؟

وتواجه نخب المؤسسة، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة الآن، عواقب فشلها في معالجة هذه القضايا، وتسلط الثورة الشعبوية الضوء على الحاجة إلى تجديد الخطاب الديمقراطي العام لمعالجة المشاكل الكبرى التي يهتم بها المواطنون، بما في ذلك القضايا الأخلاقية والثقافية.

إن فصل تشابك المظالم المشروعة عن الجوانب غير المتسامِحة للاحتجاج الشعبوي ليس بالأمر السهل، لكن من المهم أن نحاول، إذ إن إيجاد سياسة تستجيب لهذه المظالم هو التحدي السياسي الأكثر إلحاحاً في عصرنا هذا.

* أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفارد. برنامجه "الفيلسوف العالمي" على إذاعة "بي بي سي" يجمع المشاركين من مختلف أنحاء العالم لمناقشة القضايا الراهنة.

مايكل ساندل

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة".