من رسالة إلى متسائل
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
إنني لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يكون الجهل داخل اختصاصي عنصراً إيجابياً ؟! ... لم أدرس الرسم في معهد أو أكاديمية، لكنني أمارسه منذ الصغر، وفي أوقات الفراغ من القراءة والكتابة والموسيقى. الرسام رافع الناصري أجاب شكواي له مرة من مشكلة صعوبة تعاملي مع الألوان، بسبب عدم دراستها أكاديمياً بأن هذا الضعف "قد يكون فضيلة". من الواضح أنه لم يقصد أنه ليس على الرسام دراسة الألوان، وأن يحرص على جهله بعالمها الثري. لو كان حظ الرسم مثل حظ الشعر، أي أن "ثقافة الإعلام" طوته تحت عباءتها داخل الصحافة والنشر والجوائز والمهرجان، لولد مثله تيّاها بتحطيم الحدود، وحرق المراحل، وتبني فضيلة الجهل الاستنكاري. ولكن الأدب، والشعر خاصة، فعل ذلك منفرداً."الغياب المطلق للحساسية الموسيقية" لا يمكن أن يولّد حساسيةً من نوع خاص. الحساسية الموسيقية لا يُغيّبها حتى الطَّرشُ ذاته، ولقد حدث ذلك مع بيتهوڤن كما هو معروف. ولكن انعدامها لا يولّد حساسيةً خاصة حتى مع عشرة آذان. ثقافة الصحافة الناشطة، مع غياب حياة ثقافية في الواقع المعيش، جعلت قدرة التوليد الذهنية في الكلمات تقوم مقام قدرة التوليد الغائبة في الفعل الثقافي. ولذلك يبدو توليد المعرفة من الجهل ممكناً.الموسيقى الشعرية، مثل موسيقى الآلات أو موسيقى الحنجرة، تحتاج إلى خبرة ومران، إلى جانب حاجتها إلى الموهبة. أما "إتقان بحور الشعر"، فلا ينتسب إلى المران والخبرة، ولا إلى الموهبة. أنا لم أعد أذكر من بحور الشعر إلا القليل. وأكاد لا أذكر من الزحافات والعلل شيئاً. الفارق بين "إتقان بحور الشعر" وبين الحساسية الموسيقية كالفارق بين امرئ القيس وبين الخليل بن أحمد الفراهيدي. الأول شاعر والثاني عروضي. المؤسف أن كاتب "النص" هذه الأيام لا شاعر ولا عروضي.الشاعر الذي ينفتح على ممكنات موسيقية وإيقاعية جديدة، إنما هو الشاعر الذي خبر ممكنات البحور، وممكنات الكلام المتدفق على لسان الناس، وممكنات العلاقة الخفية بين العاطفة ودرجة الصوت، وممكنات الغرائز البدائية الدفينة في توليد طاقة الرقص في الكلمات، وعشرات أخرى من الممكنات، دع عنك ممكنات الموسيقى المجردة أو موسيقى الحنجرة. من هنا ينفتح الشاعر على "الممكنات"، لا من جهله بها جميعاً، وخاصة أنظمة الإيقاع الكلامي!